يتضح في الأسابيع الأخيرة اتساع للنشاط الدبلوماسي الروسي في الشرق الأوسط، بل وفي إفريقيا. وذلك استمراراً لتدخل روسيا المستمر في الحرب الأهلية في سوريا، بالتعاون مع إيران، وبالحوار مع عموم اللاعبين في المنطقة. وفي إطار ذلك، أجرى الرئيس فلاديمير بوتين زيارات واسعة الصدى في دول الخليج، وبالتوازي عقدت في موسكو قمة روسية – إفريقية واسعة المشاركة ورفيعة المستوى.
في خلفية هذه الأحداث وقعت أزمة دولية حول تقليص القوات الأمريكية في شمال سوريا، مما أخلى السبيل لتنفيذ عملية “نبع السلام” التركية، التي كانت تستهدف السيطرة على منطقة الحدود بين سوريا وتركيا، التي يسكنها الأكراد. واعتبرت الخطوة الأمريكية كتخل عن الحلفاء الأكراد، بل وكرمز لتقليص الالتزام الأمريكي بحلفائه في الشرق الأوسط والعالم. دخلت روسيا إلى الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة، في ظل خوض مفاوضات وتحقيق تفاهمات مع عموم اللاعبين المشاركين: تركيا، والنظام السوري، والأكراد. وعزز هذا، في نظر وسائل الإعلام الدولية، صورة روسيا كقوة عظمى متصدرة في المنطقة. وتوّجها العديد من المحللين كالمنتصر الأكبر في سوريا والقادرة على حسم مصيرها، دون أي قيد تقريباً.
إلى أي حد تعكس صورة “الانتصار الروسي” الواقع، ولا سيما في ضوء قرار الرئيس ترامب إعادة جزء من القوات كي يؤمن حقول النفط في شرق سوريا؟ يعكس النشاط الروسي الدبلوماسي المكثف في المنطقة رغبة موسكو في أن تملأ بنفوذها الشقوق التي خلفتها الولايات المتحدة، ولكنه لا يعكس انعطافة في ميزان القوى بين القوتين العظميين في المنطقة. فلا تزال في يد الولايات المتحدة القدرة على وضع تحديات أمام روسيا وتعريض إنجازاتها للخطر، في كل مجال في المنطقة تقريباً، إذا ما اختارت عمل ذلك.
روسيا في سوريا بعد تقليص التواجد الأمريكي
إن الإعلان الأمريكي عن الانسحاب في ظل هجر الحلفاء الأكراد أمام الحملة التركية في شمال سوريا بدا كإخلاء تام للساحة أمام روسيا. وأضيف إلى ذلك الإنجاز الدبلوماسي الذي حققته روسيا في اللقاء بين بوتين واردوغان في سوتشي (22 تشرين الأول) حين وافق الأخير على حصر الحملة في شمال سوريا. ولاحقاً أعلنت روسيا عن نشر قواتها في الحدود السورية – التركية. وبدت الخطوة العسكرية – الدبلوماسية بالفعل كإجاز غير مسبوق لروسيا ولبوتين شخصياً، التي وصفها (بينما اردوغان إلى جانبه) بـ”القرار الأهم بل وربما المصيري”. ظاهراً، بقيت روسيا القوة العظمى الوحيدة في سوريا، وأعادت إلى نظام الأسد قسماً هاماً من الأراضي السورية، دون إطلاق رصاصة واحدة.
ومع ذلك، سرعان ما برر الروس حماستهم من الظروف الجديدة. فقد شدد المحلل الروسي الكبير ثيودور لوكينوف (الذي يعكس الخط الرسمي) على أن روسيا معنية باستقرار سوريا وأن هذه ليست “لعبة مبلغها الصفر” حيال الولايات المتحدة. وشرعت وزارتا الخارجية والدفاع الروسيتان (26 تشرين الأول) في هجوم إعلامي حاد، اتهمتا فيه الولايات المتحدة بالسطو على النفط السوري وبالمصيبة الإنسانية في مخيم اللاجئين، الركبان، في الأردن. كما شككتا في أن تكون الولايات المتحدة قد نجحت بالفعل في تصفية زعيم داعش أبو بكر البغدادي. ومع أن القوات الروسية انتشرت بحجم رمزي في الحدود السورية – التركية، إلا أنها لا تسيطر على الوضع. فتركيا تقصف مواقع الأكراد وجيش الأسد بين الحين والآخر، بينما تعلن روسيا بأن الوضع مستقر. لقد كانت القوات الروسية والجيش السوري مشاركة في المواجهات مع القوات الكردية التي رفضت منحها حرية الحركة في المنطقة الكردية. وفي الأسابيع الأخيرة تهاجم وسائل الإعلام، التي تعدّ “أبواقاً دعاية” روسية، الأكراد السوريين بشدة وتصفهم “بالإرهابيين”.
إن المسيرة السياسية لتسوية النزاع في سوريا، والتي استؤنفت هي الأخرى في 30 تشرين الأول في جنيف لا تسيطر عليها موسكو. فللولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وإمارات الخليج، وتركيا، وإيران، ونظام الأسد والمعارضة.. ثمة مصالح صعبة على الجسر، تسببت بالمسيرة أن تراوح مكانها على مدى سنين. والمحاولة الروسية لتحقيق حل للطريق المسدود عبر “مسيرة الأستانة” (مع تركيا وإيران) لم تنجح، واضطرت موسكو الآن إلى العودة إلى “قناة جنيف” التي تسيطر عليها الأمم المتحدة، وبالتالي فإن للقوى العظمى الغربية حق الفيتو على شكل تقدمها. ومع ذلك، فإن انعقاد “لجنة الدستور” السورية، يعكس تعب الغرب من المسألة السورية والاستعداد لأن تفحص بجدية نوايا روسيا، دون تعهد مسبق في مجال إعادة بناء سوريا.
زيارة بوتين إلى الخليج
إن تحسين العلاقات مع دول الخليج يعد هدفاً مهماً في نظر روسيا، فموسكو ترى في السعودية واتحاد الإمارات دولتين أساسيتين في الشرق الأوسط، ستساعدها العلاقات معهما على التقدم في المصالح السياسية والاقتصادية، وبدونها ستجد صعوبة في رفع مستوى نفوذها في المنطقة. أما دول الخليج، من جهتها، فتسعى إلى إبعاد روسيا عن إيران والاستعانة بها في استقرار أسعار النفط – مسألة حرجة لاستقرارها الاقتصادي. وذلك رغم رواسب الماضي في العلاقات مع روسيا بل والمنافسة الخفية معها في مجال الطاقة.
في 14 – 15 تشرين الأول، استقبل بوتين باحتفالية في السعودية والإمارات، وزيارته هذه، لأول مرة منذ 2007، وصفت بـ “التاريخية”. وجاءت الزيارة على خلفية الهجوم الإيراني على منشآت النفط في السعودية في أيلول، والذي بقي بلا رد عسكري – هجومي أمريكي. أما موسكو من جهتها، فقد عرضت التوسط بين الرياض وطهران، بل وعرضت مبادرات لتسوية أمنية في الخليج.
في الاستعدادات التي سبقت الزيارة، سعى الروس لصب مضمون مهم فيها، ولا سيما على مستوى العلاقات الاقتصادية. ومع ذلك، في نهاية المطاف وقعت مذكرات تفاهم في مواضيع متنوعة، وعلى رأسها اتفاق للتعاون على استقرار أسعار النفط، الذي يوفر أساساً دائماً لمنظمة الأوبيك. غير أن هذا التوقيع هو الآخر كان تكتيكياً بالأساس؛ إذ إن التوافق على ذلك كان قد تحقق قبل أشهر عديدة. فضلاً عن التوقيع على اتفاق للتعاون في المجال النووي المدني مع الإمارات، لم يبلغ عن تقدم في الصفقات لنقل تكنولوجيا نووية و/أو وسائل قتالية روسية متطورة إلى الدولتين. وعليه، ففي هذا المستوى أيضاً ليس واضحاً إذا كانت روسيا وصلت إلى إنجازات تتجاوز البعد التصريحي.
ينبغي الافتراض بأن الصعوبة في صد مضمون عملي في زيارة بوتين إلى الخليج ترتبط بالحساسية الأمريكية التي تعيها الرياض وأبو ظبي. وهما تحاولان تحسين العلاقات مع روسيا كمنظومة استكمالية في مجالات مختلفة للعلاقات مع الولايات المتحدة، بل وربما لاستخدامها كرافعة للضغط على واشنطن.
القمة الروسية – الإفريقية
استضافت روسيا في نهاية تشرين الأول القمة الروسية – الإفريقية بمشاركة كل الـ 54 دولة في القارة (43 منها على مستوى الزعماء)، بقيادة مشتركة من بوتين ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي. أما إخراج اللقاء المبهر و”ماراثون” اللقاءات بين بوتين و16 زعيماً إفريقياً، فقد كان يستهدف التشديد على المكانة المتصاعدة لروسيا في الساحة الدولية، وبهدف أن تلعب من الآن فصاعداً دوراً أهم في القارة. هنا أيضاً كان الفعل الروسي نتيجة وعود سياسية واقتصادية شديدة على موسكو، تستوجب منها البحث عن ارتباطات جديدة كبديل للغرب. كما ينبغي أن نرى في الخطوات الروسية في إفريقيا توسيعاً لسياستها في الشرق الأوسط، ضمن أمور أخرى في ضوء التنسيق المتوثق مع مصر واتحاد الإمارات.
أما عملياً، فحتى الآن لا تزال الارتباطات الروسية بالقارة الإفريقية محدودة للغاية. فالميزان التجاري لروسيا مع كل دول إفريقيا يبلغ نحو 20 مليار دولار (نحو 60 في المئة منها مصر والجزائر فقط). في دول قليلة فقط تنجح روسيا في أن تلعب دوراً سياسياً أو أمنياً هاماً في الوقت الحالي. وبالتالي، فمعقول الافتراض بأنها ستسعى إلى تعزيز علاقاتها ومكانتها بالتدريج، في محاولة لتقليص الاحتكاك مع اللاعبين الآخرين من القوى العظمى، الذين لهم مكانة أقوى في القارة، وجيوبهم أعمق (الصين، الولايات المتحدة، وفرنسا).
وختاماً
روسيا ثابتة في سعيها لتعميق علاقاتها مع دول المنطقة، وتنجح في ذلك من خلال تشخيص مصالح مشتركة ونقاط لقاء. وتساعد سياسة ترامب روسيا على تحقيق نفوذ لها في المنطقة وتترك في أيديها ذخائر ما كان بوسعها أن تحصل عليها لو حافظت الولايات المتحدة بثبات على مواقفها.
ب. تُبقي الولايات المتحدة في أيديها أوراقاً هامة في سوريا: إقليمية واقتصادية. وفضلاً عن سوريا، فلروسيا في هذه المرحلة تأثير محدود في كل دول المنطقة. ورغم الشكوك المتزايدة في الموقف من ترامب، فإن حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لا يسارعون إلى “الانتقال إلى الطرف الآخر” نحو المعسكر الروسي، بل استغلال روسيا لتعزيز قوتهم على المساومة مع واشنطن، أو استنفاد مجالات من المصالح الضيقة نسبياً. فضلاً عن ذلك، فإن روسيا، ذات المقدرات الاقتصادية المحدودة، لا تتنافس مع الولايات المتحدة على دور “الشرطي الإقليمي” بل تسعى لتحقيق دور الوسيط لنفسها.
في الوقت الحالي، نجد أن النشاط الإسرائيلي في سوريا هو بمثابة تحد ثانوي لروسيا، بينما يتركز انتباه موسكو نحو خرق السيادة السورية من جانب الولايات المتحدة وتركيا وإيران، بشكل يتحدى مصالح روسية أكثر أهمية. وبالتالي، يمكن لروسيا أن تواصل احتواء الأعمال الإسرائيلية طالما اتخذت إسرائيل جانب الحذر من المس بالقوات الروسية، وطالما آثارها لا تشوش المخططات الروسية الواسعة في سوريا.
بالتوازي، يمكن أن تكون لإسرائيل فرصة سياسية قد نشأت على خلفية استئناف “قناة جنيف” ومصلحة ترامب في إنهاء التواجد العسكري الأمريكي في سوريا. على إسرائيل أن تسعى إلى دمج مصلحتها في تقييد التواجد الإيراني في سوريا في إطار التسويات الأمريكية الروسية، طالما أبقت الولايات المتحدة في يدها “أوراقاً” هامة تجاه روسيا.
في نظرة بعيدة المدى، على إسرائيل أن تستعد لتعميق النفوذ الروسي في المجالات التي تتجاوز الأراضي السورية، وأن تأخذ بالحسبان بأنه في المدى الزمني المتوسط – الطويل، فإن تغيير الاتجاه الروسي نحو إفريقيا يمكن أن يتحدى مصالحها، ولا سيما إذا ما نشأت خلافات بينها وبين مصر أو في منطقة البحر الأحمر.