شعار يرفع اليوم كما رفع من قبل، الدعوة إلى مقاومته والتصدي له متداول بقوة في العراق ولبنان والجزائر مثلما كان في تونس وليبيا ومصر واليمن. إنه الفساد كأحد الأسباب الرئيسية التي غذّت غضب الشباب في الشوارع فخرجوا منددين به معتبريه توأم الاستبداد وأحد أبرز المعضلات التي أوصلت بلدهم للحال التي هي عليه الآن.
ليس صدفة أن «منظمة الشفافية الدولية» في آخر تقرير سنوي لها اعتبرت «الفساد السياسي التحدي الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» ذلك أن «العديد من الحكومات العربية تتأثر سياستها وتتحدد ميزانيتها ومصارف أموالها بنفوذ شخصيات تعمل على مصالحها الشخصية على حساب المواطنين». ليس صدفة كذلك، أن أغلب المتظاهرين في العراق ولبنان حاليا هم من الشباب لأن هؤلاء أكثر الفئات شعورا بأن حاضرهم يُـنتهك ومستقبلهم يُصادر بسبب حفنة من الفاسدين لا يهمهم لو أفلس الناس جميعا مقابل ازدياد ثرواتهم من المال الحرام.
كيف للعراق الذي يُعد من أغنى دول المنطقة بسبب ثروته النفطية أن يصل فيه الفساد درجة تجعله في ذيل القائمة العربية متقدما فقط على كل من ليبيا والسودان واليمن وسوريا والصومال الأخيرة؟ وما تفسير أن يستفحل فيه الفساد ولديه «هيئة النزاهة» التي تأسست عام 2004 مع مفتشين عامين في كل الوزارات والهيئات و«ديوان الرقابة المالية» فضلا عن القضاء والبرلمان المنتخب لولا أن هذا الفساد اخترق الجميع فما عاد أحد قادرا على محاسبة أحد. الأسوأ من كل ما سبق، اعتراف كثير من العراقيين، ومن بينهم مسؤولون، أن الفساد استفحل إلى درجة أن المجتمع لم يعد يرى فيه عيبا أو نقيصة ولن تجد حتى داخل عائلة فاسد ما من يستاء من تصرف رب العائلة مع أنه يعلم علم اليقين أن البيت الذي اشتراه في الخارج مثلا دفع ثمنه من رشوة معلومة المبلغ والمصدر.
العديد من الحكومات العربية تتأثر سياستها وتتحدد ميزانيتها ومصارف أموالها بنفوذ شخصيات تعمل على مصالحها الشخصية على حساب المواطنين
الوضع في لبنان ليس بأفضل حالا، الكل يشير بإصبع الاتهام إلى هذا المسؤول أو ذاك وهذا الزعيم السياسي أو ذاك دون تردد لأن رائحتهم جميعا أزكمت الأنوف. ثم إن اتفاق الطائف الذي رسّخ الطائفية هناك أدى إلى تقسيم النفوذ وإنعاش المحسوبيات وأدى في النهاية إلى إغراق البلد في مزيد من الديون مقابل إثراء حفنة من المسؤولين فالدين العام الذي كان عام 1992 يقدّر بـ3 مليارات دولار بات الآن ومع نهاية آب/أغسطس الماضي أكثر من 86 مليارا، كما يتحدث الجميع عن مبلغ يقدر بـ11 مليار دولار تبخرت من الميزانية عندما كان فؤاد السنيورة رئيسا للوزراء بين 2006 و2008!! والأمثلة لن تقف هنا. وبعودة موضوع الفساد بقوة في لبنان بفضل المظاهرات اتضح أن هناك 17 ملفا عالقا وفق وسائل إعلام محلية من بينها مثلا ملف الحسابات المالية للدولة واستئجار المباني الحكومية والتوظيف غير الشرعي والتهرب الضريبي والتلاعب الجمركي والتعدي على أملاك الدولة وغير ذلك.
وبين العراق ولبنان بعض النقاط المشتركة سواء في ملفات فساد أو المقاربة الرسمية في التعاطي الحالي مع هذه القضية. لنأخذ مثلا قضية الكهرباء: لقد مكثت شخصيا في العراق لشهرين بعد سقوط بغداد في نيسان/ابريل 2003 وكانت الكهرباء تنقطع باستمرار لكن الجميع كان يتحدث وقتها أن هذه القضية ستعالج في غضون أسبوع أو أسبوعين فإذا بها ما زالت مطروحة بعد 14 عاما رغم توالي الحكومات والوعود. في لبنان أيضا، سنوات طويلة ومشكلة الكهرباء تؤرق الجميع دون حل بعد أنها استهلكت ثلث الدين الحكومي منذ التسعينيات ما أدى إلى انتعاش «مافيا المحركات الخاصة» رغم أن غالبية الأطراف السياسية مروا على وزارة الكهرباء دون أن يجدوا حالا لانقطاعات الكهرباء المتكررة في البلاد.
النقطة الأخرى المشتركة الآن بين العراق ولبنان هو أن جميع المسؤولين يتحدثون في بيروت وبغداد عن الفساد وأهمية مقاومته إلى درجة أن المرء يمكن أن يصرخ: إذن من هم الفاسدون إذا كنتم أنتم على هذه الدرجة من الطهورية في فضح هذه الآفة والدعوة إلى مكافحتها. يتحدث الرئيس ميشيل عون عن أن «التحقيقات لن تستثني أحدا» وأن الخطوات المقبلة ستكون لرفع السرية المصرفية والحصانة عن المتورطين وأن التوجه جاد لاستعادة الأموال المنهوبة وإنشاء محكمة خاصة بالجرائم المالية، وكذلك يفعل بقية المسؤولين والزعامات، وفي العراق أيضا تخوض الرئاسات الثلاث في الموضوع وكأن لا علاقة لها بالموضوع أو كأنهم من نشطاء المجتمع المدني وليسوا رجال دولة يتحملون وزر ما يجري بالكامل.
من حسن حظ لبنان ومدعاة فخره أنه لم يجابه الهبة الشعبية الغاضبة بعنف وعنجهية كما حصل في العراق الذي سقط فيه العشرات برصاص قوات الأمن ولكن العبرة بالنتائج في النهاية. لا بد أن يرى المواطن في كل من لبنان والعراق الإرادة السياسية اللازمة لقطع دابر الفساد، كأحد أبرز الملفات التي تحتاج إلى معالجة عاجلة، ولو أنه من المستبعد تماما أن يحارب الفسادَ الفاسدون، أو المطبّعون معه، و لكن دعنا ننتظر ونرى.. دون سذاجة أو أوهام.