ساعة نشر هذا المقال سوف يكون قد نشر من المقالات والتحليلات عن الاتفاق النووي بين إيران ودول 5+1 (الحقيقة هي 5+2 حيث يضاف ممثل الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي) ما يزيد بكثير عن حجم الاتفاق ذاته (159 صفحة). وخلال تلك الأيام سوف تتقدم الولايات المتحدة بطلب إلى مجلس الأمن لإصدار قرار بالاتفاق حتى يكون له صفة الالتزام الدولي. وبالطبع لن تكون هناك صعوبة في إصدار القرار، لأن الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس شاركت في صنع الاتفاق، ومن ثم فإن ما تبقى سوف يكون محض تفاصيل. ومثلها تفاصيل عندما يعرض الاتفاق على الكونغرس الأميركي فإن اعتراض الأغلبية الجمهورية عليه لن تقف في وجه «فيتو» الرئيس أوباما الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بأغلبية الثلثين، وهو ما يستحيل حدوثه. الاتفاق إذن بات حقيقة واقعة من حقائق السياسة الدولية والإقليمية، سوف يترتب عليها نتائج علينا ألا نبالغ فيها أو نقلل من شأنها، وببساطة علينا أن نضعها في حجمها الصحيح بقدر ما تساعدنا أدوات التحليل على ذلك.
قيل عن الاتفاق النووي إنه أهم حدث في الشرق الأوسط منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991. والأفضل من هذا التشابه هو أنه ربما كان الاتفاق مماثلا لأول الاتفاقيات الخاصة بالحد من التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1972 التي عرفت باتفاق سالت – 1. كلا الاتفاقين، مدريد وسالت، كان بداية تلتها تطورات كثيرة، ففي حالة مدريد بدأت عملية سلام عربية – إسرائيلية واسعة نجم عنها اتفاق أوسلو الذي وضع الأساس لحل الدولتين، واتفاقية السلام الأردنية – الإسرائيلية. وفي حالة سالت – 1 فقد أعقبها بعد ذلك سالت – 2، ومن بعدها جاءت اتفاقية خفض الأسلحة الاستراتيجية سارت – 1، أي أنها كانت بداية أخرى لعملية طويلة المدى كان من بعض نتائجها الجانبية انهيار الاتحاد السوفياتي. كلتا الواقعتين – مدريد وسالت – رتبت نتائج مهمة استراتيجيا وتاريخيا، ولكن أيا منهما لم تخلق مفارقة تاريخية تحل عقدا وتناقضات هيكلية، فلا السلام حل في الشرق الأوسط أو بين العرب والإسرائيليين، ولا التناقض بين روسيا والغرب جرى عبوره، بل لعله الآن لا يقل عمقا حتى بعد جلوس واشنطن وموسكو على مائدة واحدة في الاتفاق. وفي الظن أن ذلك سوف يكون حال الاتفاق النووي الإيراني.
فالحقيقة أن الاتفاق لم يغير شيئا من طبيعة طرفي الاتفاق، ولم يكن ذلك هو القصد منه على أي حال، فهو اتفاق حول وقف اتجاه إيران نحو إنتاج الأسلحة النووية، وفقط، ولا غير، ولا ينبغي تحميل الاتفاق أكثر مما ينبغي. ومن ناحية إيران، فإنها يمكنها ادعاء النصر؛ لأن موقفها كان دوما أنها ترغب في الاستخدام السلمي للطاقة النووية كما تخولها اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية. ومن ناحية الولايات المتحدة، ومشاركيها، فإنهم يمكنهم ادعاء النصر لأنه من الناحية العملية، والقدرات العلمية والعملياتية، جرى وقف إنتاج إيران للأسلحة النووية، ومراقبة ذلك بشكل لصيق يضع أنظار العالم وآذانه على الدولة الإيرانية بالمراقبة حتى بما فيها المواقع العسكرية. فرحة الطرفين بالنصر، كل على طريقته، هو نتاج المفاوضات الدولية الناجحة، ولكن يبقى أن التناقض ما بين دول العالم الغربي وإيران سيظل باقيا، كما ظل باقيا مع الاتحاد السوفياتي ومن بعده روسيا بوتين التي لا يعلم أحد ما إذا كانت تريد عودة روسيا القيصرية أو روسيا الشيوعية. وبعد الاتفاق فإن الوحدة التي جرت بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن سوف تصل إلى نهايتها، وبعدها فإن الصين وروسيا سوف تمضي كل منهما في طريقها، بينما تمضي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومعها ألمانيا وبقية الاتحاد الأوروبي في طريقها المعلوم لحلف الأطلسي.
لذلك فإن الاتجاهات المتفائلة في الغرب التي ترى في الاتفاق بداية لوفاق إيراني – غربي يدعمه أن رفع العقوبات على إيران سوف يجعلها أقل عدوانية من قبل؛ فيها من المبالغة الكثير. ليس معنى ذلك إنكار أن الاتفاق لن يخلق ديناميات خاصة تجعل الأوضاع بعده مختلفة عما قبله، لكن هذه الديناميات لن تكون من العمق بحيث تتجاوز التناقضات الرئيسية التي جوهرها أن إيران، وثورتها ونظامها السياسي، تماما مثلما كان مع الشيوعية والاتحاد السوفياتي، لا يوجد لديه قدرة على الانسجام مع النظام الدولي المعاصر. المعضلة سوف تكون إيرانية أكثر منها غربية، حيث ستكون الحيرة في إيران بين اتجاهين إزاء تحرير 100 مليار دولار من الأموال الإيرانية المحظورة بفعل العقوبات الدولية: الأول سيكون في اتجاه أن إيران بعد سنوات كثيرة عجاف آن لها أن تعرف سنوات سمانا يحصل فيها شعبها على بعض من التقدم الاقتصادي، أما الثاني فسيرى في المليارات الكثيرة فرصة لا عوض عنها لدعم مخطط إيران الاستراتيجي بأن تكون زعيمة الشيعة في العالم، ولم ليس العالم الإسلامي بأسره؟! الغرب لن يكون لديه معضلة من هذا النوع، فتحت أقسى أنواع العقوبات حققت إيران تأثيراتها الإقليمية المختلفة التي أوصلتها إلى باب المندب، ولم يعد هناك من الناحية العملية ما تستطيع فعله بعد ذلك، خصوصا أن بعضا من العقوبات العسكرية سوف تظل سارية لبعض الوقت.
العالم العربي عليه أن يقيم الوضع بدقة، فإيران غير النووية تفقدها القدرة على تحقيق مكانة عالمية وإقليمية كانت تصبو إليها في العلن وفي الخفاء. ومن ناحية أخرى فإن الاتفاق قد جرى بينما المعركة محتدمة في المنطقة، وخصوصا في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وهي لا تجري فقط مع إيران التي تريد زعامة «الشيعة»، وإنما أيضا مع «داعش» وأمثاله الذين يريدون زعامة «السنة». الواقع الحالي يقول إن كليهما يخسر في سوريا واليمن، والمعركة بينهما محتدمة في العراق، والأمر كله ممتد من المحيط الأطلنطي وحتى خليج العرب. الخلاصة أن المعارك تجري باستقلالية عن الاتفاق من عدمه، وأوراقه الأساسية لا تزال في يد العرب بعد أن صار لديهم قرار القوة العسكرية واستخداماتها، وما بقي أمامهم هو رفض أن يكون الانقسام المذهبي بين السنة والشيعة في يد «داعش» أو طهران. ودون الدخول في التفاصيل الكثيرة فإن واقع المنطقة لم يتغير كثيرا، والعرب وحدهم هم الذين في أيديهم فك تناقضات تاريخية آن الأوان لتجاوزها ومنع الآخرين من العبث بها.
د.عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط