ليس واضحاً كيف ستتجه الأمور في إيران بعد اندلاع احتجاجات رافضة لزيادة سعر البنزين قد تتطور إلى انتفاضة شاملة. امتدت تظاهرات الرفض في يومها الأول إلى العديد من المدن الإيرانية، ورافقتها شعارات ضد الإنفاق الرسمي على “استثمارات” القيادة الإيرانية في لبنان وغزة حيث تغدق على تنظيمات تابعة للحرس الثوري مئات ملايين الدولارات.
والواقع أن إيران تستثمر منذ عقود في الناحيتين لتثبيت حضورها على ساحل المتوسط. والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله هدد اللبنانيين المنتفضين على سلطاتهم أنهم سيفقدون رواتبهم فيما سيتمكن هو من سداد رواتب عناصره بالمال الذي يأتيه من إيران، وهذا هو الضيم الذي بدا أن الشعب الإيراني لن ينام عليه بعد اليوم، وقد جدد رفضه سياسة تصدير الثورة التي يتبعها قادته على حساب معيشته وتقدمه، كما فعل في انتفاضات سابقة. وحالة لبنان تشبه تماماً حالة غزة. هنا وهناك تبنى العلاقة على قاعدة التمويل، وفي غزة شنت حركة “الجهاد الإسلامي” المتسابقة مع حركة “حماس” على التومان الإيراني المدولر حرباً صغيرة ضد إسرائيل، بقيت “حماس” خارجها، في تنافس على حصرية الوكالة الإيرانية، وهذا يحصل دائماً في علاقات تبعية من هذا الصنف.
قبل انتفاضة البنزين الإيرانية، كانت طهران منشغلة بأمور عدة. عقدت مؤتمراً للوحدة الإسلامية جلبت إليه أنصارها من بقاع الأرض، وحددت موقفاً على لسان خامنئي من انتفاضتي العراق ولبنان، باعتبارهما خدمة للمخططات الأميركية الإسرائيلية، مع إضافة “وبعض الدول العربية”، ما يعني ضمناً السعودية ودول الخليج، للقول إن طرفاً عربياً (سنياً) يسهم في تأجيج ثورتي العراق ولبنان، ويستتبع ذلك استنتاج مفاده أن إيران هي المستهدفة بسبب مطالبة اللبنانيين والعراقيين بالاستقلال والسيادة في دولة تحكمها القوانين تكافح الفساد وتمدد الميليشيات .
يفترض أن تكون رواية المؤامرة التي دأبت السلطة الإيرانية على تعميمها قد سقطت في أعين رواتها العرب، فها هي أسباب مشابهة لانتفاضتي العراق ولبنان تقود إلى انتفاضة شعب “الولي الفقيه” على نظام الملالي وقراراته المعيشية الداخلية وسياساته الإقليمية، غير أن هؤلاء الاتباع سيواصلون، على الرغم من ارتباكهم الأكيد، تنفيذ الرؤية الإيرانية للمشهد في لبنان والعراق، وسيزداد الضغط الإيراني في هذا الاتجاه نتيجة التطورات الداخلية، فالسلطة التي لا تتورع عن قتل عشرة من مواطنيها في يومين وتعمم على هواتفهم تهديدات وتحذيرات وتمنع الإنترنت في أنحاء الدولة، لن تتورع عن السير في أقصى ما تملك من قدرات لفرض رؤيتها في بلدان تعتبرها مناطق لنفوذها.
إذا كانت تجربة العراق في انتفاضته المتواصلة منذ شهر ونصف الشهر قد أظهرت وكشفت تدخل خامنئي المباشر في قرار بغداد، فإن محاولة مماثلة تجري في بيروت لمنع الشعب اللبناني من تحقيق أهدافه في قيام دولة ديمقراطية تطيح بدولة الفساد والرشوة وهيمنة الميليشيات الإيرانية. والواقع أنه بعد ثلاثة أيّام من تقديم سعد الحريري استقالة حكومته، تبرعت وكالة “تسنيم” الإيرانية الرسمية بتحليل مطول حول الحكومة التي يفترض أن تقوم في لبنان.
وفي ما يشبه سلسلة توجيهات تبناها حزب الله في خطابات لاحقة، استبعد التحليل الإيراني إمكانية السير بنوعين من الحكومات في لبنان استجابة لمطالب الانتفاضة الشعبية. النوع الأول حكومة أكثرية تنبثق مما يعتقده الحزب أكثرية نيابية مطواعة تنبثق من مجموعة “8 آذار” ولا تضم قوى كبرى مثل “تيار المستقبل” و”القوات اللبنانية”… واعتبر التحليل أن حكومة من هذا القبيل ستتعرض لمزيد من الحصار الدولي والعربي، بالتالي فهي لا تناسب المرحلة.
النوع الثاني من الحكومات هو الحكومة التكنوقراطية، وهي ما يطالب به المحتجون في لبنان، ويرفض التقرير الإيراني مثل هذه الحكومة بشكل قاطع، لأنه يعتبر أنها ستكون مدخلاً لإبعاد حزب الله عن السلطة وفي ذلك خسارة لسياسة إيران في المنطقة.
وتصل “تسنيم” إلى ترجيح خيار ثالث هو الحكومة “التكنوسياسية”، التي ستضم ممثلين للقوى السياسية ومن تختارهم هذه القوى من اختصاصيين في مجالات الاقتصاد والمال. وواضح أن الهدف من هذا الخيار هو إبقاء حزب الله وحلفائه في السلطة، وهو الأمر الذي ترفضه الانتفاضة اللبنانية بشكل قاطع.
يقف الوضع اللبناني الآن عند نقطة الحسم هذه، فالحزب المذكور وحليفه الأساسي التيار العوني يتمسكان بالبقاء في الحكومة ويرفضان دعم حكومة اختصاصيين تتولى إدارة مرحلة انتقالية تعالج خلالها الأزمة المالية والاقتصادية وتمهد لانتخابات نيابية مبكرة، فيما تصر الانتفاضة على حكومة الاختصاصيين المستقلة هذه، وإذا أخذنا في الاعتبار احتمالات تطور الوضع في إيران واستمرار التحركات الداخلية فيها، فإن حزب الله سيذهب إلى مزيد من التشدد في تمسكه بحكومة لبنانية ملائمة لأهدافه، وستجد الانتفاضة اللبنانية نفسها في مواجهة مباشرة معه، الأمر الذي كانت تتجنبه حتى الآن.
اندبندت العربي