حياتنا كلها خيارات، ولأن بعض الخيارات متناقضة، أو لا يمكن إطلاقا اختيارها معا، فعلينا أن نختار واحدا منها ونتجاهل الخيارات الأخرى. الإنسان الرشيد ينتقي الخيار الأمثل الذي يعظّم مصلحته، أو يفي بجزء من الخيارات الأخرى، بينما يخفّض الأضرار إلى أدنى مستوى. هذه المبادلة أو المقايضة بين الخيارات هي أساس الحياة، وأساس علم الاقتصاد، وأساس سياسات الطاقة، وأمن الطاقة.
مشكلة رسم السياسات الطاقية والبيئية أكثر عمقا من الاختيار فقط، بسبب النتائج غير المتوقعة لكل سياسة. وهنا تكمن قوة علم الاقتصاد: القدرة على التنبؤ بالنتائج غير المتوقعة للسياسات الحكومية التي يتبناها السياسيون بناء على ظروفهم الخاصة. ولعل شهرة بعض الاقتصاديين تنبع من قدرتهم على تنبؤ النتائج غير المتوقعة.
من هذا المنطلق، لا يمكننا التطرف في سياسات الطاقة أو البيئة، بخاصة إذا كانت النتائج غير المتوقعة من قبل السياسيين عكس ما يهدفون إليه تماما. وهذه بعض الأمثلة:
1- تهدف دول مستهلكة عدة إلى رفع الضرائب على المنتجات النفطية للتخفيف من آثار التغير المناخي الناتج عن احتراق هذه المواد. ينتج عن ذلك قيام الفقراء بقطع أشجار الغابات -رئة العالم التي تمتصّ غازات ثاني الكربون- التي تخفف من التغير المناخي، واستخدام حطبها كوقود، والذي بدوره له انبعاثات أسوأ من انبعاثات المنتجات النفطية التي يستخدمها الفقراء. والأسوأ من ذلك قيام بعض المزارعين بتجميع روث الأبقار والحيوانات الأخرى وتجفيفه وحرقه.
المثير في هذه الحالة أن تحوّل الفقراء عن المنتجات النفطية يعني تخفيض الطلب عليها، وبالتالي فإن الحكومة لن تحقق حتى الهدف المالي من هذه السياسة!
2- تحاول بعض الدول التخفيف من إعانات الوقود، ولكن حرصها على عدم تأثر الفقراء بها يجعلها تضع سعرين، سعرا للفقير وسعرا للغني، أو تقوم بترشيد الاستهلاك عبر قسائم حكومية تحدد لكل شخص كمية معينة من الوقود شهريا، حسب المهن غالبا. مثلا سائق سيارة الأجرة أو الشاحنة يحصل على كميات أكبر. النتيجة هي فشل السياسة لأن الفقراء أو سائقي سيارات الأجرة والشاحنات سيبيعون نصيبهم لمن يدفع سعراً أعلى من السعر الحكومي! وبالتالي فإن كمية الدعم قد لا تتأثر كثيرا، أو يمكن أن تزيد، حيث يجدها الفقراء طريقة سهلة لجني دخل شهري مستمر.
الأنكى من ذلك أن عائد سائقي سيارات الأجرة والشاحنات من بيع الوقود في السوق السوداء أعلى مما يجنونه شهريا لو عملوا، فيتوقفوا عن العمل بحجة ارتفاع أسعار الوقود، وتتباطأ حركة المواصلات في البلد! وهذا ما رأيناه في إيران في الماضي ونراه الآن.
3- قدم العديد من الحكومات دعما ماليا كبيرا لتشجيع الناس على شراء السيارات الكهربائية للتخفيف من حدة التغير المناخي، إلا أن انتشار السيارات الكهربائية في بعض الأماكن خفّض العوائد الحكومية من ضرائب البنزين، والتي تستخدم في كثير من الأحيان لصيانة الطرق والجسور. نتج عن هذا فرض الحكومات رسوما إضافية على تسجيل السيارات الكهربائية للتعويض عن الخسارة في ضرائب البنزين!
المثير في الأمر ما يحدث في الولايات المتحدة: تقدم الحكومة الفيدرالية إعانات لشراء السيارة الكهربائية، وترفع بعض الولايات رسوم التسجيل عليها. هذا يعني أن جزءا من الإعانات يذهب من حكومة إلى حكومة!
4- وخوفا من الاتهام بالتحيز ضد السيارات الكهربائية، قدّم بعض الولايات مشاريع قوانين تفرض رسوما إضافية على مدى كفاءة محرك السيارة: كلما ازدادت الكفاءة وانخفض استهلاك البنزين زادت الرسوم! هذا يعني أن ارتفاع هذه الرسوم بشكل كبير يشجّع على شراء سيارات البنزين الكبيرة والأقل كفاءة، الأمر الذي يزيد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون!
وعلى ذكر السيارات، القوانين الأميركية الخاصة بكفاءة محركات السيارات تنطبق على متوسط ما تنتجه الشركة، وليس على كل فئة من السيارات. وبما أن الشركات تحقق أكثر أرباحها من السيارات الكبيرة، فتقوم بإنتاج سيارات صغيرة تؤجرها لشركات التأجير، بينما تبيع سياراتها الكهربائية بخسارة، حتى تثبت للحكومة أنها تنتج وفقا للقانون! ولكن النتيجة كثرة السيارات الكبيرة في الطرق، وزيادة مستويات التلوث.
5- فرضت الحكومات قوانين صارمة على شركات السيارات، تجبرها بمقتضاها على تحسين كفاءة محركات السيارات بهدف التخفيف من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. هذا يعني استهلاكا أقل للوقود من جهة، وتكاليف سفر أقل للمستهلك من جهة أخرى. نتج عن هذا زيادة مسافة السفر، حيث تقدّر البحوث أن نحو ثلث الكمية التي تم توفيرها بسبب الكفاءة تم هدره في زيادة مسافة السفر!
6- هذا ينطبق على كفاءة الطاقة في المباني أيضا: زادت الكفاءة بشكل كبير، إلا أن الناس بدأت تبني بيوتا أكبر، وتستخدم الإلكترونيات التي زادت استهلاك الطاقة، رغم زيادة الكفاءة. كما تشير البيانات إلى أن زيادة كفاءة الطاقة خفّضت من استهلاك الطاقة في السنوات الخمس الأولى فقط، ومع قدم البيت، زاد استخدام الطاقة.
7- بسبب الهوس بتحسين كفاءة الطاقة في المباني وتخفيف تكاليف الطاقة، والقوانين التي رافقت ذلك، تم بناء مبانٍ من دون أي نوافذ يمكن فتحها، الأمر الذي نتج عنه انتشار الفطريات في البيوت والمكاتب، بشكل لم تشهده البشرية من قبل، الأمر الذي نتج عنه زيادة تكاليف التنظيف ومواد التظيف بشكل كبير، وانتشار أمراض الحساسية لدى كثير من الناس، بخاصة الأطفال. تكاليف التنظيف والتكاليف الصحية قد تفوق أي وفورات في تكاليف الطاقة في هذه الحالة.
8- تبنت كبريات الدول المستهلكة سياسات طاقة تقضي بتنويع مصادر الطاقة من جهة، وتنويع مصادر واردات النفط والغاز من جهة أخرى، إلا أن السياسات الخارجية والأمنية لهذه الدول استلزمت فرض عقوبات اقتصادية على عدد من الدول المنتجة للنفط والغاز، مما أفشل سياسات الطاقة الداعية إلى التنويع.
9- شجع بعض الحكومات المواطنين على الاستثمار في الألواح الشمسية على السطوح بحجة أنه يمكنهم بيع الفائض لشركة الكهرباء. هذا يعني أن المواطن يحصل على كهرباء من سطحه، ويحصل على عائد مالي. ونظرا للعائد المغري، استثمر عدد كبير من الناس فيها، فحدث فائض في الكهرباء وانخفض سعر الكهرباء للصفر، وفشل الاستثمار فشلا ذريعا! في نفس الوقت، بدأ الذين لم يستثمروا في جني منافع ما حصل بسبب انخفاض فواتير الكهرباء!
10- أخيرا، حددت حكومات عدة أسعار المحروقات والمنتجات النفطية بأقل من سعرها بكثير في الأسواق العالمية بهدف توفير هذه المواد للمواطنين من جهة، ومساعدتهم ماليا من جهة أخرى، كما أن لهذه السياسة منافع سياسية أخرى. إلا أن ارتفاع أسعار هذه المنتجات بشكل كبير في الدول المجاورة أدى إلى تهريب هذه المواد إلى الدول الأخرى، فنتج عن ذلك شح في هذه المواد وارتفاع كبير في أسعارها.
خلاصة الأمر، يجب النظر إلى أي سياسة حكومية ضمن الصورة الكبيرة والكاملة للمجتمع، وليس بمعزل عنه.