وسط موجة احتجاجات يشهدها قوس النفوذ الإيراني من طهران إلى بيروت، جاء نشر الوثائق الإيرانية المسرّبة ليكشف حجم النفوذ الذي راكمته إيران في العراق خلال السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي لهذا البلد. 700 صفحة من تقارير وبرقيات وضعتها وزارة الاستخبارات الإيرانية في إطار تنافسها، على ما يبدو، مع الحرس الثوري، وخصوصا فرعه الخارجي المتمثل بفيلق القدس، وقائده الجنرال قاسم سليماني، تلقاها موقع “إنترسيبت” الأميركي، ونشر أجزاء منها بالشراكة مع صحيفة نيويورك تايمز. جاءت الوثائق لتؤكد ما نعرفه جميعا عن حجم الاختراق الإيراني للعراق إلى درجة تجنيد قيادات عراقية على أعلى المستويات، بمن فيهم رؤساء جمهورية، ورؤساء حكومات.
أهمية الكشف عن الوثائق في هذه المرحلة تأتي من أنها تؤكد صدقية مطالب المحتجين في العراق، كما في إيران، وتعطيها أسبابا إضافية للتوسع والانتشار. وبعد أن طلب المرشد الإيراني، علي خلامنئي، صراحة من الحكومة العراقية قمع الاحتجاجات، وأوفد عامله قاسم سليماني إلى بغداد، ليبلغ طبقتها السياسية رفضه استبدال رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، الذي تسميه الوثائق المسربة أحد رجالات إيران، بات العراقيون موقنين أن إيران تمثل العقبة الأكبر في وجه طموحاتهم في بناء عراق قوي، لا طائفي، سيد، مستقل ومزدهر. هذا الإدراك الذي يتنامى يوميًا هو الذي حوّل الشعارات التي أطلقها المحتجون، في البداية، من مطلبية (تتمحور حول الخدمات) إلى سياسية، تدعو إلى خروج إيران، ومعها الطبقة السياسية التي جاءت تحكم البلد منذ عام 2003. يعرف العراقيون اليوم أن إيران لا تتحكّم فقط بقرار بلدهم السيادي، عبر طبقة فاسدة تستند إلى دعمها وتتلقى تعليمات منها، بل أيضا تشارك في نهب ثرواته عن طريق شبكات مصالح متداخلة بين البلدين. ويجري الحديث اليوم عن تهريب ملايين الدولارات من العراق إلى إيران، تحسبا لعقوبات أميركية محتملة تطاول مسؤولين وزعماء مليشيات مشاركين في قمع الحركة الاحتجاجية، كما يجري الحديث عن تلكؤ الحكومة العراقية في إقرار خطط لإقامة محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، حتى تستمر إيران في تصدير الكهرباء إلى العراق، وعن تباطؤ في استثمار حقول الغاز في العراق، حتى تستمر إيران في بيع غازها للعراق، وغير ذلك من أوجه الفساد المشترك بين النخب الحاكمة في البلدين.
بالمثل، تفيد الوثائق المسربة في دعم قضية المحتجين في إيران الذين يرون أن حكومتهم تبدّد طاقات البلد وموارده في مغامرات إقليمية، وسعيا وراء أوهام امبراطورية، لا تعود عليهم إلا بالعزلة والحصار وضنك العيش. ليس هذا فحسب، بل يطلب إليهم الصبر والتضحية و”المقاومة” فيما يستشري الفساد في طبقة الحكم على نحو غير معروف حتى في أيام نظام الشاه. وفي خضم صراعات النخبة الحاكمة، أمر رئيس السلطة القضائية الجديد، إبراهيم رئيسي، بفتح تحقيق في قضايا فساد بمليارات الدولارات، تطاول خصوصا الإخوة لاريجاني (علي وصادق)، اللذين يبدو أن قرارا بإزاحتهم عن المشهد قد اتخذ في إطار ترتيبات خلافة المرشد. وتعد إيران من بين الدول الثلاثين الأكثر فسادا، بحسب منظمة الشفافية الدولية، ما يسهم في زيادة التفاوت الطبقي الكبير أصلا. وبحسب الحكومة، فإن الزيادة أخيرا في أسعار البنزين سوف تذهب على شكل إعانات مالية لنحو 60 مليون إيراني، ما يعني أن 75% من الإيرانيين يعدّون، بحسب الحكومة، مستحقين للمساعدة، علما أن تقارير مختلفة تتحدث عن أن نصف الإيرانيين يعيشون حوالي خط الفقر (40 مليون نسمة) في حين يعيش 14 مليون إيراني عند خط الفقر الأدنى. لا غرابة إذا أن تنتقل الاحتجاجات هنا أيضا من مطالبات بتراجع الحكومة عن رفع أسعار البنزين الى إحراق صور المرشد والمطالبة بإسقاطه.
لن تسقط الاحتجاجات في إيران والعراق النظامين الحاكمين في البلدين، لكنها كشفت في حالة الأولى مقدار الفجوة التي باتت تفصل النظام عن الفئات والشرائح التي مثلت يوما قواعد دعمه الرئيسة. وفي العراق، بات واضحا، بشهادة الوثائق المسربة، أن قدرة إيران على اختراق النخبة السياسية العراقية وتجنيدها كانت أكبر بكثير من قدرتها على اختراق المجتمع العراقي، وهذا أهم ما فيها، والتاريخ لن يرحم أحدًا.
العربي الجديد