مواطنو العراق مثل قيادتهم؛ لم يكونوا محتاجين إلى كشف موقع الأخبار “ذي انتر سبت” أو ما نشر في “نيويورك تايمز” لمعرفة حجم تدخل إيران في الشؤون العراقية. يكفي اعتماد العراق على الكهرباء التي يشتريها من إيران والتي توفر نحو 45 في المئة من استهلاكه، لفهم وزن إيران في اقتصاد العراق وتأثيرها على حياة كل مواطن. عشرات آلاف المتظاهرين في بغداد والبصرة والنجف وكربلاء ومدن كبرى أخرى يعرفون جيداً أن العراق لا يمكنه الانفصال بمرة واحدة عن ثدي إيران.
عندما يصل حجم التجارة بين الدولتين نحو 12 مليار دولار في السنة، وفي ظل اعتماد سياحة العراق في الأساس على حجاج إيران، التي هي دعامته الاقتصادية ولا بديل لها. ولما كانت الاتفاقات التي وقعها العراق مع السعودية، وعرضت عليه مد خط كهرباء بديلاً للكهرباء الإيرانية، ثم فتح معبر الحدود بين العراق والسعودية.. وفجأة أمسى كل ذلك بعيداً عن تلبية احتياجات المواطنين في العراق، فإن الاحتجاج موجه ضد فساد النظام العراقي الذي لم ينجح خلال الـ 16 سنة الأخيرة منذ تحرير الدولة من حكم صدام حسين، في توفير أماكن عمل لملايين العاطلين، وإنشاء بنية تحتية مناسبة للخدمات. وفي المقابل، اختفت مليارات الدولارات في جيوب المقربين، ورؤساء الحركات والأحزاب، ومليشيات محلية، وجيش فاسد وحكومة لا تقوم بدورها.
التفسير المعتاد الذي يعتبر هذه المظاهرات بداية الشرخ بين إيران والعراق، بالانضمام إلى المظاهرات الكبيرة التي اندلعت في إيران ولبنان، تكون وجدت رواية قابلة للاستيعاب ومشجعة تقول إن إيران تفقد بالتدريج السيطرة على الشرق الأوسط، أو على الأقل تقف على شفا أزمة سياسية يمكن أن تسقط النظام هناك. وكالعادة، يتم مرة أخرى توجيه الانتقاد للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأنه لا يساعد المتظاهرين في إيران بصورة أكثر نشاطاً، أو على الأقل يستغل الفرصة كي يخلق بواسطتهم قناة لإسقاط النظام.
يبدو لن هناك مساعدة أكثر فعالية للنظام في إيران من تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي قال إن “الولايات المتحدة تقف إلى جانب المتظاهرين” وإدانة القبضة الحديدية التي يتبعها النظام في إيران ضدهم. تصريحات دعم كهذه تفيد من النظام وحرس الثورة الذين يتهمون الولايات المتحدة وإسرائيل ودولاً أخرى في تأجيج المظاهرات، وبالتدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية وممارسة “إرهاب اقتصادي”. هكذا، يمكن أن يقوم النظام بتأطير المتظاهرين كمبعوثين لـ “تكبر الغرب”، وكمن يخدمون الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر، وكمن يريدون تخريب دولتهم.
مسؤولية سليماني العظيمة
خلافاً للمتظاهرين في هونغ كونغ، فإن حركات الاحتجاج في إيران والعراق لا تُسمع أي نداء استغاثة للعالم بشكل عام ولأمريكا بشكل خاص. كثيرون في هاتين الدولتين، وليس في أوساط النظام فقط، يعتبرون الولايات المتحدة السبب الرئيسي للمشكلات التي تغرق دولهم. متظاهرو العراق وضعوا لأنفسهم هدفاً هو إسقاط حكومة عادل عبد المهدي، وتشكيل حكومة تكنوقراط تجتث الفساد وتوزع مداخيل الدولة بصورة متساوية، وبالأساس إيجاد أماكن عمل. يُعتبر عبد المهدي بالنسبة للمتظاهرين مدعوماً، سواء من أمريكا أو من إيران. من هنا تكمن أزمة الثقة بين الشعب العراقي والنظام الأمريكي.
في الأسبوع الماضي تحدث بومبيو مع عبد المهدي وتوسل إليه الاستجابة لطلبات المتظاهرين وعلاج الفساد. وهو لم يطلب منه الاستقالة ولم يهدده كما فعلت هيلاري كيلنتون في حينه مع رئيس الحكومة نوري المالكي، أو ما فعله براك أوباما مع الرئيس المصري حسني مبارك. السناتور لنتسي غراهام، المقرب من ترامب، قال لصحيفة “نيوز ويك”: “أحب عبد المهدي، إنه شخص طيب”. ولكن عليه أن يعمل ضد الفساد.
في حين أن الإدارة الأمريكية تخشى من بعيد على مصير عبد المهدي، فإن قاسم سليماني، المسؤول عن نشر شبكة نفوذ إيران في العالم، جاء بنفسه إلى العراق، ليس للمرة الأولى، والتقى الزعيم الروحي في العراق، آية الله علي السيستاني لإقناعه بدعم استمرار حكم عبد المهدي. وحسب تصريحات المتحدث بلسان السيستاني، يمكن الفهم بأنه تم الاتفاق على مواصلة تأييد الحكومة والقيام بعدة إصلاحات استهدفت إرضاء المتظاهرين دون إحداث انقلاب سياسي. هكذا، فإن زيارة سليماني تخدم جيداً مصالح أمريكا أيضاً، لكنها تضع في نفس الوقت واشنطن وطهران في المكان نفسه كمن تدافعان عن نظام فاسد. الفرق هو أن إيران تستخدم قوتها بشكل مباشر وبواسطة المليشيات الشيعية ضد المتظاهرين، في حين أن الولايات المتحدة تنظر من بعيد.
إن مضمون وثائق “انتر ست” نشر في معظم الصحف العراقية ووسائل الإعلام العربية والإيرانية. ولكن ثمة شك في أن تؤثر على سلوك الحكومة العراقية أو تردع إيران من مواصلة التدخل، فإذا كانت مظاهرات العراق شكلت قبل أسبوع تهديداً على خارطة السيطرة الإقليمية لإيران، فهي الآن وبعد اشتعال الشارع الإيراني، تهديد داخلي وسياسي. إذا نجح متظاهرو العراق في إسقاط الحكومة فإن نجاحهم سيشعل أكثر المظاهرات في إيران. المسؤولية الكبيرة الملقاة على سليماني هي وقف هذا التطور، ليس من أجل إنقاذ النظام العراقي فحسب، بل لكبح التمرد في بلاده. أعلنت حكومة إيران بأنها ستبدأ في توزيع الأموال على العائلات المحتاجة لتعويضها عن رفع أسعار الوقود الذي تسبب بالمظاهرات الحالية. المشكلة هي أن رفع سعر الوقود بأكثر من 50 في المئة يضر بالأساس الطبقة الوسطى التي توجد فيها الإمكانية الكامنة للاحتجاج، ولكن لا يوجد لدى الحكومة في هذه الأثناء أي حلول سريعة مثل التعويضات المالية التي يمكنها تهدئة احتجاجهم إلا إذا قررت الحكومة إلغاء ضريبة الوقود الجديدة.
يحظى الرئيس الإيراني حسن روحاني، بدعم الزعيم الأعلى علي خامنئي الذي قرر أنه يجب الخضوع للقانون وسياسة الحكومة. ولكن البرلمان استدعى روحاني في السابق لجلسة استجواب وطلب منه توضيح رفع أسعار الوقود والحلول التي يقترحها. يمكن التخمين بأنه إذا قدر خامنئي بأن رفع أسعار الوقود تهديد مهم فسيعطي توجيهاته للحكومة من أجل التراجع عن الأمر، على الأقل عن جزء من القرار. وفي كل الأحوال، للنظام الإيراني الآن هامش مناورة سياسي واقتصادي كبير بدرجة كافية من أجل تهدئة الاحتجاج، بالأساس بعد أن دشن مصانع التكرير الجديدة التي من شأنها أن تعفيه من استيراد البنزين.
القدس العربي