انتفاضة النجف والناصرية تصفي نفوذ أحزاب موالية لإيران

انتفاضة النجف والناصرية تصفي نفوذ أحزاب موالية لإيران

بغداد – خرجت الانتفاضة الشعبية العراقية التي أتمت شهرها الثاني، عن حدود مطالب إصلاحية على هيكل النظام القائم، إلى تصفية نفوذ أحزاب موالية لإيران فرطت بالعشرات من الفرص لبناء البلاد على مدى ستة عشر عاما.

ولم تترك استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي من منصبه التي وافق عليها البرلمان الأحد، أثرا يذكر على الحراك، برغم الاحتفالات الشعبية الجزئية بها بوصفها “أول منجزات الثورة” على حد وصف نشطاء بارزين، يجب أن تتلوه منجزات أخرى تتعلق بتغييرات جذرية في عمق النظام السياسي، وربما استبداله، بعد عجزه عن إنتاج منظومة إدارة ناجحة.

وقدمت التظاهرات في مدينة النجف المقدسة لدى الشيعة في العراق والعالم، نموذجا لغضب الشارع على الأحزاب السياسية التي استولت على البلاد بمعونة إيران ولخدمة مصالحها في الوقت نفسه، إذ يصر المحتجون على محاصرة وإحراق مقرات حزبية ومراقد رجال دين عرفوا برعايتهم لأحزاب ومقرات منظمات تعمل تحت لافتة المجتمع المدني لكنها تقدم خدمات سياسية.

وذكر مراسل “العرب” أن المتظاهرين في النجف لم يعيروا بالا لاستقالة عادل عبدالمهدي ولا يعتبرونها جزءا من مطالبهم، لأنهم يركزون على “تصفية” مظاهر الإسلام السياسي الموالية لإيران من مدينتهم.

ومنذ خمسة أيام يحاصر المتظاهرون في النجف مبنى كبيرا يحيط بقبر مؤسس المجلس الإسلامي الأعلى محمد باقر الحكيم، الذي جاء إلى العراق بعد الإطاحة بنظام الرئيس الراحل صدام حسين وأطلق مشروعا سياسيا واسعا للهيمنة على السلطة، قبل أن يقتل في أغسطس من العام 2003 بتفجير انتحاري، دبره شيعة منافسون.

ولم يوقف موت الحكيم مشروعه السياسي الذي آلت قيادته لشقيقه عبدالعزيز الحكيم، الذي توفي بعد أعوام وسلم الراية لنجله عمار الحكيم، الذي انشق عن المجلس الأعلى، بعدما استحوذ على جميع ممتلكاته وموارده، وشكل تيارا جديدا يحمل اسم “الحكمة”، نسبة إلى لقب عائلته.

وعرف المجلس الأعلى بأنه الرافعة الأساسية للنفوذ الإيراني بعد الإطاحة بصدام، إلى جانب حزب الدعوة الإسلامية، حيث هيمن الطرفان على أهم المناصب في السلطات التنفيذية لأعوام عدة، بدعم من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني.

وأحرق المتظاهرون أجزاء من قبر الحكيم على دفعات خلال الأيام الماضية، لكنهم فقدوا العشرات من رفاقهم بين قتيل وجريح برصاص عناصر ميليشيات تيار الحكمة، الذين استقتلوا في الدفاع عن الموقع.

وقال مراقبون إن إصرار المتظاهرين في النجف على إحراق قبر الحكيم يعكس حالة الغضب الشعبي من كل تمثلات الإسلام السياسي، في مدينة عرفت بأنها مركز التأثير الروحي في أوساط شيعة العراق والعالم، لأنها تحتضن مرقد الإمام علي بن أبي طالب، ومقر المرجع الشيعي الأعلى.

واعتبر الصحافي البريطاني المختص بشؤون الشرق الأوسط باتريك كوكبيرن أن النخبة السياسية العراقية أدركت أن الانتفاضة الشعبية تمثل تحديا يهدد وجودها ككل لا استمرارها في السلطة فقط، وبالتالي قررت مواجهتها وسحقها بكل السبل الممكنة، لكن حرق القنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء التي يزورها الملايين من الشيعة سنويا، إضافة إلى ما حدث في النجف، يعتبر تصعيدا خطيرا ومؤشرا بارزا على تخلي الشيعة العراقيين عن أي شعور بالتضامن الديني مع إيران كدولة شيعية.

وكانت مدينة الناصرية الجنوبية سبقت النجف في تصفية كل أشكال الوجود الخاصة بالأحزاب الإسلامية والميليشيات المسلحة التي انبثقت عنها.

ومنذ مطلع أكتوبر الماضي يتنقل المتظاهرون في الناصرية بين مقرات الأحزاب الشيعية والميليشيات الموالية لإيران ليحرقوها واحدا تلو الآخر، حتى انتهوا منها جميعا. والآن، لم يعد هناك مقر مفتوح لحزب أو ميليشيا في هذه المدينة، التي استبسل أبناؤها في حقبة الحرب على داعش، ولعبوا دورا بارزا في القضاء على التنظيم، لكنهم نالوا الإهمال فقط.

لكن الناصرية دفعت ثمنا باهظا لتحقيق هذا الواقع، إذ خسرت خلال الأيام الثلاثة الأخيرة فقط أكثر من خمسين شابا والمئات من الجرحى، الذين تصدوا لنيران أحزاب الإسلام السياسي والميليشيات الموالية لإيران بصدور عارية.

ويعتقد مراقبون أن حجم الدم الذي أريق في الناصرية والنجف وبغداد، ينهي كل إمكانيات التفاهم بين النظام السياسي القائم في العراق والشارع الثائر، ويفرغ استقالة عبدالمهدي من مضمونها.

وقال أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والمختص بشؤون العراق البروفيسور توبي دودج “إن النظام السياسي في العراق بعد 2003 حمل في داخله بذور الفساد والطائفية والقمع، لذلك ينظر العراقيون إلى ساسته كانتهازيين يعتمدون في بقائهم على الميليشيات”.

وأضاف دودج في تصريح لصحيفة الأوبزرفر البريطانية أن “النظام في العراق الذي أقيم على أسس طائفية بشكل متواز مع توزيع الغنائم، نزعت عنه الشرعية، وبدأ في التهاوي الآن وكنتيجة لذلك تزايد العنف في البلاد”.

وبالتزامن مع استخدام نفوذ الميليشيات بقتل المتظاهرين، بدأت ماكينات إعلامية مقربة من النظام بتسريب أسماء مرشحين لخلافة عبدالمهدي ينتمون إلى الأحزاب الحاكمة نفسها، إذ سخر المتظاهرون من جميع المرشحين، الذين كان على رأسهم وزير الشباب السابق عبدالحسين عبطان، وهو أحد الكوادر القيادية في تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، الذي يحاصر المتظاهرون مقر تياره في النجف.

ووفقا لتقديرات ميدانية، فإن انخراط عشائر وسط وجنوب العراق في الحراك الشعبي، ربما ينقل التظاهرات إلى مرحلة تمكنها من صناعة بدائل سياسية مختلفة عن تلك التي تفكر فيها الأحزاب الحاكمة.

وتطرح في الناصرية فرضية تشكيل حكومة محلية من داخل ساحة الاحتجاج وتسمية قيادات أمنية لتمشية أمور المدينة من قبل المحتجين أنفسهم، بمعزل عن بغداد وإجراءاتها، في ظل إصرار الطبقة السياسية على المناورة والانحياز لمصالحها التي تبلغ من العمر 16 عاما.

ويقول مراقبون إن نجاح هذا النموذج في مدينة عراقية واحدة، سيشجع مدنا أخرى على تجربته، ما يعني نهاية مركزية السلطة السياسية الخاضعة للإيرانيين في بغداد.

ووسط هذه التوجهات، يبرز التحدي الإيراني بصفته الخطر الأكبر الذي يتهدد حركة الاحتجاج العراقية، ولكنه قد يكون مباشرا هذه المرة، وليس كما حدث خلال الشهرين الماضيين عبر نافذة حكومة عادل عبدالمهدي.

ويقول مراقبون إن إيران قد تزج بحرسها الثوري للسيطرة على المشهد المتفجر في الناصرية والنجف على الأقل، إذا تطورت فكرة البديل السياسي المحلي البعيد عن هيمنة طهران، ما يفتح باب التوقعات العراقية على المزيد من الدماء.

وبعد المجازر التي ارتكبت في الناصرية والنجف، فقدت الأحزاب الحاكمة القدرة على الائتلاف ثانية من أجل إعادة إنتاج النظام السياسي من خلال ضخ وجوه جديدة إلى المشهد، لذلك فقد ركزت الأحزاب في شائعاتها عن المرشحين لاحتلال منصب رئيس الوزراء على وجوه سياسيين تابعين لها سبق وأن ارتبطت بعمليات فساد كبرى.

ووصف مراقب سياسي عراقي هذه العملية وبعد استقالة عادل عبدالمهدي، بعبارة عن صيد وهمي في الفراغ الذي صارت الأحزاب الإسلامية تسبح فيه من غير أن تجد حلا لخروجها من المأزق.

وأضاف المراقب في تصريح لـ”العرب” إذا ما كانت تلك الأحزاب قد أخلت مقراتها في عدد من المحافظات تحوطا فإنها لا تزال تحكم سيطرتها على مقر الحكم في المنطقة الدولية “الخضراء” ببغداد. وهي منطقة محصنة تبدو اليوم معزولة أكثر من ذي قبل. وهو ما قد يشجع على إهمالها والعمل على تأليف حكومات محلية في المحافظات التي تبدو اليوم أقرب إلى الاستقلال بنفسها من قدرة تلك الأحزاب على العودة إلى إخضاعها واحتواء التظاهرات فيها.

وتوقع المراقب أن تكون بداية النهاية لحكم الإسلام السياسي إذا ما تأكد أن الناصرية قد بدأت بلملمة جراحها والسعي إلى تشكيل حكومة محلية بعيدة عن المحاصصة بين الأحزاب التي تم طردها.

لكنه استبعد التدخل الإيراني المباشر عن طريق الزج بقوات من الحرس الثوري. ذلك لأن إيران ليست مستعدة لفتح جبهة جديدة مع العالم بالرغم من أن خسارتها ستكون كبيرة، موضحا أن “إيران ليست في وضع يؤهلها لإعادة ذكريات حربها ضد العراق. وهي إن تدخلت فذلك يعني نشوب حرب عراقية إيرانية جديدة”.

العرب