فيتنام: من انتصار الثورة إلى ازدهار الدولة

فيتنام: من انتصار الثورة إلى ازدهار الدولة

شعوب العالم العربي، ونحن منهم يحبون فيتنام. فيتنام مثلها مثل الجزائر، الأولى تذكرك بهزيمة الإمبريالية الأمريكية وتمريغ أنفها في التراب، والثانية تعيد إلى الأذهان الزهو بانتصار ثورة عربية ضد الاستعمار الفرنسي الخطير، وكنسه من الجزائر بعد 132 سنة. فتحنا عيوننا على أخبار دولة بعيدة تصمد وتقاتل وتضحي لنحو 20 سنة، ثم تنتصر على الإمبريالية الأمريكية، بعد أن هزمت فرنسا.
لم تخضع ولم تستسلم واستطاعت أن تهزم الدولة الأعظم والأغنى والأقوى، وتركلها من البلاد مذمومة مدحورة، ويهرب آخر مسؤول أمريكي، وثلة معه من على سطح السفارة الأمريكية في سايغون في طائرة عمودية، مغلقا بذلك ملف أطول تدخل أمريكي في شؤون بلد واحد، ومخلفا وراءه نحو 55000 قتيل، وأكثر من ثلاثة ملايين قتيل فيتنامي، ضحوا بأرواحهم لإنقاذ بلادهم من حكم الغرباء.
لقد سجل التاريخ أسماء القيادات الفيتنامية بأحرف من نور في ذاكرة الشعوب المناضلة من أجل الحرية، خاصة لدى الفلسطينيين، مثل الجنرال جياب وهوشي منه، الذي أطلق اسمه على مدينة سايغون بعد توحيد شطري فيتنام عام 1976.
انضمت الدولة الموحدة لعضوية الأمم المتحدة عام 1977، بعد أن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) مرتين، لتحرم فيتنام الشمالية من العضوية، كما فعلت مع الصين الشعبية، التي أجلست في مقعدها الدولة المنشقة «تايوان»، والتي تم طردها من المنظمة الدولية عام 1971، بعد إشارات الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الانفتاحية نحو الصين، التي توجت بزيارة تاريخية في شباط/فبراير عام 1972.
بعد انتصار فيتنام الكبير ذهب وفد فلسطيني رفيع برئاسة ياسر عرفات للتهنئة والاستماع إلى بعض الملاحظات الإرشادية، التي قد تفيد الفلسطينيين في نضالهم. قام هوشي منه بتسليم راية الثوة الفيتنامية لقائد الثورة الفلسطينية، متمنيا للفلسطينيين الانتصار، لكنه كان حذرا في التفاؤل وقال مخاطبا الوفد الفلسطيني: «أيها الرفاق نحن انتصرنا، لأن خلفنا بحرين عظيمين يمداننا بأسباب الانتصار: الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي، إضافة إلى إرادة شعبنا وتصميمه، فكيف يمكن أن ننهزم. أما أنتم، فمن خلفكم ليسوا بالضرورة مؤيدين لكم ولنضالكم، وعليكم أن تنتبهوا ليس للعدو الذي أمامكم فقط، بل أيضا للأعداء المتربصين خلفكم». (النقل بالمعنى وليس حرفيا). خرجت فيتنام من معركة طويلة تركت البلاد مدمرة مقسمة ومتخلفة. وبدأت معركة البناء، انطلاقا من وحدة شطري البلاد، والعمل على تجاوز مآسي الحرب والدمار الذي خلفته سنوات الحرب الطويلة.

فيتنام على المسرح الدولي

ما أثار في نفسي ذكريات فيتنام هو انضمامها لعضوية مجلس الأمن غير الدائمة للسنيتن المقبلتين. 45 سنة من البناء والإصلاح والتعمير والتعليم والتقدم، أنتجت دولة قوية فاعلة تكاد تكون خالية من الفساد، لتكسب ثقة المجموعة الآسيوية والدول الأخرى على مستوى العالم. ويتم انتخابها لعضوية مجلس الأمن غير الدائمة، بغالبية 192 دولة من مجموع 193، وهي سابقة نادرة تشير بوضوح إلى ما تتمتع به البلاد من سمعة طيبة واحترام شديد وعلاقات مميزة مع دول العالم. وهذه هي المرة الثانية التي تنتخب فيها فيتنام لعضوية المجلس، فالمرة الأولى كانت عامي 2008 – 2009.
أصبحت فيتنام دولة متقدمة ونشيطة على كل المستويات، يصل عدد سكانها لأكثر من 95 مليونا يعملون بجدية مطلقة، للحاق بركب التقدم والنمو والازدهار على الطريقة الصينية، التي تحدّث الاقتصاد، من دون أن تفتح مسالك التحديث السياسي كي لا يتسرب من شقوقه الإمبرياليون الجدد، الذين لن يغفروا لفيتنام ما ألحقته بهم من هزيمة ومذلة. فيتنام سارت على خطى مدروسة من الإنجازات على كل المستويات، وسوت مشاكلها العديدة مع دول الجوار، وحتى مع الولايات المتحدة، وبدأت في ترميم اقتصادها المعتمد أصلا على الزراعة، فقامت بتوزيع الأراضي وتنويع الاقتصاد، وتشجيع الملكية الفردية، واستطاعت في نحو عشرين سنة أن تصبح من أقوى الاقتصاديات الصاعدة في العالم. لقد خفضت نسبة الفقر بنسبة كبيرة لتتفوق على الصين والهند والفلبين في هذا المجال. ويتوقع خبراء التنبؤات الاقتصادية أن يحتل الاقتصاد الفيتنامي المرتبة 21 عالميا بحلول عام 2025 وأن تتفوق فيتنام على النرويج وسنغافورة والبرتغال عام 2050.
لعبت الدبلوماسية الفيتنامية دورا رائعا في تحسين صورة البلاد، وإقامة أفضل العلاقات حتى مع أعداء الأمس، فانتخبت كما أسلفنا في حزيران/يونيو الماضي لعضوية مجلس الأمن غير الدائمة، واختيرت كذلك لرئاسة رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) لعام 2020. وتضع البلاد على رأس أولوياتها موضوع التغير المناخي والسياسة متعددة الأطراف والأمن والمساهمة في قوات حفظ السلام وإبعاد الفضاء الخارجي عن التسلح، واحترام سيادة الدول والإعلاء من شأن القانون الدولي واحترام الميثاق.

فيتنام نموذج للدولة التي تعيش حالة سلم مع نفسها ومع الآخرين، فهي من بين الدول الأقل فسادا في العالم والأكثر انضباطا وجدية في العمل

فيتنام تشكل الآن نموذجا جيدا للدولة التي تعيش حالة سلم مع نفسها ومع الآخرين. فهي من بين الدول الأقل فسادا في العالم والأكثر انضباطا وجدية في العمل. فيتنام تقيم علاقات مع 178 دولة، ومن موقع الكرامة والسيادة أعادت علاقاتها مع الولايات المتحدة، رغم سنوات الجمر، لسبب أساسي أنها تريد أن تبني اقتصادها وأن تستجلب المستثمرين للبلاد وأن تكون نقطة جذب سياحية. علاقاتها مميزة مع روسيا كما حسنت علاقتها مع الصين، التي ظلت تتقلب عبر العصور. ففي حرب كمبوديا وقفت الصين مع الخمير الحمر، عندما غزت فيتنام البلاد عام 1978 لإسقاط حكم بول بوت الدموي، الذي قتل الملايين من الشعب الكمبودي، وتنفس العالم كله الصعداء بعد إسقاط ذلك النظام الذي كان يبني مجده على أكوام الجماجم. هناك خلاف عميق ولكنه منضبط بين فيتنام والصين الشعبية، على ترسيم الحدود البحرية، وملكية بعض الجزر في بحر الصين الجنوبي، حيث تتنازع الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي، وهي الصين وفيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي، السيادة على مناطق منه منذ عدة قرون، لكن التوترات في المنطقة تصاعدت في الآونة الاخيرة. وكانت الصين قد عززت ادعاءاتها بالسيادة على أجزاء واسعة من هذا البحر، عن طريق تشييد الجزر الاصطناعية فيه، وتسيير الدوريات البحرية في مياهه، وهو ما سبب قلقا لفيتنام، وبقية الدول المتشاطئة مع ذلك البحر. لقد بعثت فيتنام رسالة مشفرة للصين، والدول دائمة العضوية، أن حل النزاعات يكون بالعودة إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، بعقد اجتماع لمجلس الأمن على مستوى الوزراء في التاسع من شهر كانون الثاني/يناير الحالي لمناقشة كيفية التمسك بالميثاق والقانون الدولي، ومبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية.

درسان للعرب

قد يسألنّ قارئ ولماذا تكتب عن فيتنام الآن؟ والجواب أنني أريد أن أستخلص درسين من سيرة هذه الدولة العظيمة. الأول للفلسطينيين وهو: أولا تقوم بالثورة وتتابعها لغاية الانتصار، ثم تبني دولة حديثة. أما قيادة الثورة الفلسطينية فتخلت عن الثورة لتبني دولة مستقلة، والنتيجة أن الفلسطينيين خسروا الثورة والدولة معا. أما الدرس الثاني فهو لليمن، فكما توحد شطرا فيتنام عام 1976 توحد شطرا اليمن عام 1990. الوحدة الفيتنامية كانت ناجحة ونموذجا يحتذى في رسم الخطط الاقتصادية والاجتماعية للنهوض بكل أبناء الشعب بدون تمييز. أما علي عبد الله صالح فاعتبر جنوب اليمن غنيمة، فنهب ثرواته ودمر بنيانه وأهان شعبه وأباحه عام 1994 للعسكر ليفعلوا ما يشاؤون والنتيجة ما نراه الآن. فلو تعززت وحدة الشطرين بجد وصرفت ثروات البلاد على التنمية السليمة، وليس على تسليح الحرس الجمهوري والحروب وشراء الولاءات، لكان اليمن أقوى دولة في منطقة الجزيرة العربية بدل هذه المأساة التي هي أساسا من تركة علي عبد الله صالح. فهل نتعلم شيئا من تجارب الآخرين؟

عبدالحميد صيام

القدس العربي