الأقليات والتطييف والثورة في سورية (1-2)

الأقليات والتطييف والثورة في سورية (1-2)

201291992713548734_2

ما فتئت قضية الأقليات في سورية تثير جدلاً واسعاً بين القوى السياسية والاجتماعية، في ضوء الثورة الشعبية والتغيير القادم، وهل سيكون في صالح تعميق التعايش الاجتماعي والاندماج الوطني، أم سيكون بوابة لأزمات وصراعات دينية ومذهبية وقومية، وانعكاسه على هذه الأقليات وعلى مستقبلها، خصوصاً وأن هناك من ينفخ في الرماد، كما يقال، مثل جبهة السلطة الاستبدادية التي تسعى إلى تضخيم الهواجس والمخاوف، وتصب الزيت على النار بإثارة التوترات بين مكونات الشعب السوري، على أمل التشكيك بالمستقبل الذي تبشر به الثورة، والتأثير على موقف الأقليات والقوى التي تدّعي حمايتها من الثورة، أو جبهة بعض القوى الدولية التي تبحث عن موضع قدم في سورية ما بعد نظام الأسد، عبر بوابة حماية الأقليات من الأكثرية الصاعدة على خلفية الهواجس والمخاوف التي أطلقتها ظواهر سلبية نبتت على سطح الثورة.
واقع الحال أن للقضية تاريخاً وأبعاداً مركبة ومتشابكة ومعقدة؛ فالعالم الإسلامي الذي تكونت فيه الشخصية السورية كان، وما زال، محكوماً بالثقافة الإسلامية بمكوناتها الثلاثة: العقيدة الدينية، الفقه الإسلامي، التجربة التاريخية، ومع أن هذه المكونات تتطابق في مرحلة، وتتمايز وتتباين إلى حد التناقض في أخرى، فقد ظلت تتمتع، لدى غالبية العرب المسلمين السنَّة، بالقداسة باعتبارها الإسلام.

المذاهب والطوائف
في هذا الفضاء، وتحت هذا السقف، طُرِحت اجتهادات، ونشأت مذاهب فقهية تحولت، مع مرور الوقت، إلى طوائف دينية، طائفة كبيرة، أهل السنّة والجماعة أو السنّة، وطوائف أصغر، ليست متساوية في الحجم: شيعة، علويين، دروز، إسماعيليين…. إلخ، ترتب على مواقفها من بعضها، ومن الأحداث، قيام أحزاب سياسية، بالمعنى الذي أخذته الكلمة في الحضارة الإسلامية أي الولاء لشخصٍ أو فكرة، وانفجار صراعات عنيفة ودامية، عمَّقت الخلافات الفقهية/الطائفية، وكرّست انقسامات أفقية وعمودية في الاجتماع الإسلامي. وقد أفرز هذا كله قراءات مختلفة ومتناقضة لأحداث التاريخ وتداعياتها: روايات، وأحكام دينية وأخلاقية، مشاعر وعواطف متضاربة وأحقاد وعداوات، بقيت ساريةً في ثنايا التاريخ الإسلامي، يضاف إليها في كل جيل تفصيل جديد أو رواية جديدة مشوهة لحدث قديم. تراكمات متواترة، بحيث غدا لدى كل منها رواية خاصة بها عن المذاهب والطوائف الأخرى تُشيطنها، وتجعلها في موقع الخارج على العقيدة، وأس الفساد والسبب المباشر لكل المشكلات والصراعات والأخطاء التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأصبح كل مذهب منها أو طائفة أو جماعة صغيرة شخصاً اعتباريّاً يرى في نفسه معبِّراً عن الإسلام، مع أنه نشأ بعد وفاة الرسول محمد بعقود، وأن التمذهب به ليس من أصول الدين، ونال المذهب السنّي غلبةً، كونه ظل المذهب الرسمي للإمبراطورية الإسلامية في الخلافتين الأموية والعباسية، وغدا الأكثرية العددية، ما جعله يعتبر نفسه الممثل الشرعي للإسلام، والمذاهب/الطوائف الأخرى خوارج عليه، مع أنها لم تخرج على أصول العقيدةاالتي حددت بثلاثة أسس: الألوهية، الرسالة، الميعاد/يوم الحساب أو القيامة.

مع انقطاع الفعل الإسلامي في التاريخ، وجمود الحضارة الإسلامية، ورسوخ قدم التخلف والانحطاط العقلي والثقافي والسياسي، بانتصار الحنابلة والأشاعرة والمتصوفة وسيادة رؤاهما الفكرية والسلوكية، وتآكل الإنجازات المادية والفكرية، وانكماش التطور الحضري، وعودة المجتمعات الإسلامية إلى حالة من البداوة والتريف، ناهيك عن الحروب الداخلية والخارجية، وما نجم عنها من مظالم وخسائر وكوارث اجتماعية، وهزائم عسكرية، وغياب مشرع سياسي إسلامي، انتقلت الخلافات إلى عمق الاجتماع الإسلامي، وتسرّبت المواجهات والمناكفات، حتى بلغت القاع الاجتماعي، عبر تداول روايات تنطوي على اتهامات وتكفير وتخوين يتم تداولها، تعكس حالة خصومة شديدة، إن لم تكن عداوة، وزاد في تعقيد القضية تبني الخلفاء والسلاطين مواقف بعض الفقهاء المتزمتين، واستخدام قوة السلطة في البطش بأبناء المذاهب الصغيرة وملاحقتهم، وهذا دفعهم إلى التكتل للدفاع والهرب إلى الجبال والصحارى البعيدة، وقد حوّلتهم المظالم والملاحقة والعزلة إلى كتل صماء متقوقعة، تتلبس عقلية الحصار، متسترة ومتكتمة ومجهولة المواقف والطقوس، وهذا غذّى السرديات المعادية بالروايات والتوهمات عن انحرافهم وجنوحهم وخروجهم على الإسلام والإفتاء باستتابتهم أو إقامة الحد عليهم، وهذا غذّى مظلوميتهم، وزاد في تقوقعهم وانعزالهم عن المجتمعات الأخرى.
مع ظهور الفكرة القومية وانتشارها، ونشوء الدول الوطنية، وبروز الأفكار الحديثة: العلمانية والاشتراكية وتبني أسس حديثة للدولة، أسس دستورية وقانونية، زادت الأمور تعقيداً، حيث تحمس المسيحيون للقومية مدخلاً للمساواة مع الأغلبية الإسلامية، وتحمس أبناء المذاهب الإسلامية الصغيرة للقومية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية، والشيوعية، مدخلاً للتساوي في الحقوق والواجبات مع الأكثرية السنية، بينما لم تنظر الأكثرية السنية، لاعتبارات ثقافية ومصلحية، إلى هذه التحولات والتطورات بعين الرضا، فقد رأت في تبنيها حطّاً من قدر الإسلام، وخفضاً في مكانته، فالإسلام، في نظرها، متفوق ثقافيّاً وسياسيّاً، وهو أكبر من القوميات، والانتماء إليه يتجاوز الأوطان، فالأمة الإسلامية واحدة موحدة، تجلَّى هذا الموقف، بوضوح، بموقف السنة من قيام دولة لبنان الكبير، ناهيك عن شكها الفكري والاجتماعي بـالعلمانية والديمقراطية والشيوعية، ورفضها لها.
ولم تنجح الدولة الوطنية في العالم الإسلامي في جسر الهوة بين مواقف مكوناتها الدينية والمذهبية والطائفية، ناهيك عن القومية والإثنية، فبقي الاندماج الوطني هشّاً، وعرضة للاهتزاز والتفكك عند أي تحد، والوحدة الوطنية مرهونة بقوة السلطة وقدرتها على ضبط الحراك الاجتماعي والسياسي، أكثر من ارتباطها بالتماسك الذاتي.

القهر والظلم .. والعروبة والاشتراكية
واقع الحال أن الوضع في سورية، وكذلك في العراق، أكثر تعقيداً، فقد عاش السوريون حالة إضافية من التفتيت والتشتيت، نتيجة لسياسات النظام الذي حكمهم باسم العروبة والاشتراكية، ومارس ضدهم أبشع أنواع الظلم والقهر، نظام حكم تسلطي تعسفي تمييزي، بدأ مع ما سُمى بـ “ثورة” 8 مارس/آذار عام 1963، بإقامة نظام استبدادي مبني على هيمنة الحزب الواحد شكلاً وعلى سيطرة الجيش واقعًا. نظام عسكري: جيش له دولة وحزب، بعبارة محمد عابد الجابري، قبل أن يحوله حافظ الأسد بعد ما سُميت “الحركة التصحيحية” ( 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970) إلى نظام استبدادي أكثر سوءاً، قائم على هيمنة الرجل الواحد، نظام يرتكز على شخصنة السلطة، وعبادة الفرد، عبر السيطرة على الجيش بالاستناد إلى عصبية طائفية؛ فقد بدأ بإخراج آلاف الضباط، ممن توقع أن يعيقوا سيطرته، من الجيش بإحالتهم إلى التقاعد، أو بفصلهم منه لأسباب مفتعلة، أو بتصفيتهم جسديّاً، بذريعة تآمرهم على النظام “التقدمي”، أو باعتقالهم سنوات طويلة من جهة. ومن جهة ثانية، وضع ضباطٌ من لون طائفي واحد (علويين) في مواقعهم. وكان من مفارقات هذه الحملة ترفيع آلاف الضباط العلويين بعد هزيمة أكتوبر/تشرين الأول 1973 ووصول القوات الإسرائيلية إلى بلدة سعسع على مشارف دمشق، والتي سُميت زوراً وبهتاناً حرب تشرين التحريرية، ونال عليها الأسد الأب وصف بطل التشرينين: تشرين التحرير وتشرين التصحيح، مكافأة لهم على “الانتصارات” العظيمة التي حققوها. حصل رفعت الأسد، وكان وقتها نقيباً، على نجمتين، شهد الجيش بعدها ما عُرف بظاهرة العليات (علي حيدر، علي أصلان، علي حسين، علي إبراهيم) التي سيطرت على الجيش، قبل أن يصعد نجم أولاد الأسد: رفعت في سرايا الدفاع، عدنان في سرايا الصراع، وأخيراً باسل وبشار وماهر الذين أُقحموا في القوات المسلحة، وتخرجوا ميجورات في دوراتهم.
غير أن خوف حافظ الأسد وحذره من الجيش، لمعرفته بطبيعة الجيش السوري، وما يمكن أن يحصل داخله من مؤامرات، وما تحاك فيه من دسائس، جعله لا يركن إليه، ولا يطمئن على حكم العائلة في غيابه، دفعه إلى إعادة تشكيل الجيش على شكل فرق مستقلة، ومكتفية بذاتها من جهة، وإعطاء سرايا الدفاع التي يقودها شقيقه أفضلية في التسليح والتدريب والسلطة، بحيث يضمن عدم وقوع انقلاب، باتفاق عدد من الضباط، قبل أن يتحول، بسبب عدم ثقته بموقف الضباط العلويين من حكم الأسرة، فكلهم يطمحون إلى خلافته في السلطة، إلى تشكيل أجهزة مخابرات متعددة ومتنافسة ومتصارعة، تلعب دور السيطرة على المجتمع والجيش في آن، ويسيطر هو عليها، بربطها به شخصياً، وتغذية طموحات قادتها، وتشجيع التنافس بينهم على كسب رضاه، والصراع على الهيمنة على السلطة والمجتمع، كل هذا وهو يحضِّر وريثاً للحكم: ابنه البكر باسل.

كرّست عملية إعادة تشكيل الجيش وتأسيس أجهزة المخابرات هيمنة أبناء الطائفة العلوية فيهما، قبل أن يبدأ وزير الداخلية، اللواء غازي كنعان، إطلاق حملة “علونة” جهاز الشرطة، ناهيك عن ملء دوائر الدولة والمدارس بالموظفين العلويين. لقد استدرج أبناء الطائفة العلوية ليكونوا جيش النظام وأمنه، وظهير سلطة بيت الأسد، باستخدامهم في حمايته مقابل منحهم حظوة أمنية واجتماعية واقتصادية؛ فأصبحوا عصبية النظام بالتعبير الخلدوني.

تجميد الاندماج الوطني
في مستوى آخر، سعى حافظ الأسد إلى تجميد الاندماج الوطني، إن لم يكن تفكيكه، عبر إثارة المخاوف والهواجس في أوساط الأقليات، ناهيك عن دق إسفين بين العرب والأكراد، باتهام الأخيرين بالسعي إلى الانفصال، واقتطاع جزء من أراضي سورية، وتخويفهم من الطائفة السنية التي في حال استلامها السلطة ستبيدهم، جرى ذلك بدعوة الأقليات الدينية (المسيحيين) والمذهبية (الدروز والإسماعيلية) إلى التحالف مع العلويين، لدرء هذا الخطر. قالها لهم حافظ الأسد إبّان أزمة ثمانينيات القرن الماضي، ويقولها بشار الأسد الآن، وأعطاها امتيازات، وإن بدرجةٍ أقل من امتيازات العلويين، كما لجأ إلى محاصّة طائفية في الوظائف والمناصب العليا، خصوصاً في الجيش وأجهزة المخابرات؛ ما ترتب عليه مزيد من ربط هذه الأقليات بالنظام الاستبدادي، وضرب أساس الدولة المدنية وسيادة القانون، وتدمير الحياة السياسية بتحويلها إلى منظومة ولاء للرئيس، وإسباغ القداسة عليه، وعلى أقاربه وأعوانه، بصورة أدت إلى تغولهم وسيطرتهم على مقدرات البلاد الإدارية والمالية، بوضع اليد على الدورة الاقتصادية، ونهب المال العام، وتخريب القيم الاجتماعية، وضرب المنظومة الأخلاقية، عبر إشاعة آليات الفساد والإفساد التي رعتها أجهزة المخابرات، وتفكيك الوحدة الوطنية بتلغيم المجتمع بالمخاوف والهواجس، وإيجاد انقسامات عمودية بين المواطنين والمناطق، عبر إشاعة التمييز بينهم في الحقوق والواجبات، لتنتهي إلى تجويف كامل للنظام الجمهوري، عبر عملية توريث السلطة.
لذا، كان من الطبيعي أن نجد في مقدمة القوى المدافعة عن النظام علويين في الغالب، وأبناء طوائف صغيرة بدرجة ثانية. هذا لا يعني عدم وجود سنَّة، لأن الكثرة العددية والتحالفات والمصالح وضعت عددًا منهم في السلطة. ولكن، في مواقع وأدوار غير مقررة؛ فالسياسة التي عملت على إخضاع المجتمع والدولة السوريين، وبرمجة سلوكهم وتنميط ردود أفعالهم، لن تفرز إلا هذه المظاهر.
مع انفجار الثورة الشعبية، جدد النظام الاستبدادي حملته، ونشّط أدوات دعايته لتوتير المناخ الاجتماعي، وتحفيز الهواجس والمخاوف الطائفية، وخطَّط، في إطار الدفاع عن سلطته، لدفع الأوضاع إلى مسارات حرب طائفية، لاعتبارات عديدة، أهمها: تحشيد الأقليات، والطائفة العلوية خصوصاً، حوله، وربط مصيرها بمصيره، تخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف المجتمع الدولي من نتائج انتصار الثورة، وأثر ذلك على السوريين من أبناء الأقليات الدينية، وخصوصاً المسيحية، في مغازلة للغرب الذي طالما لعب بورقة حمايتها تغطية لأطماع استعمارية، دخلت روسيا فلاديمير بوتين سوق المنافسة على النفوذ، بتبني حماية الأقليات، وسعى إلى الاستفادة من المذهبية والعرقية، المنتشرتين ليس في سورية فحسب، بل وفي دول المنطقة التي تعاني من انقسامات دينية وطائفية مماثلة. لذا، لم يكن مصادفة أن تُسرَّب فيديوهات تصور عمليات القتل والتعذيب والاغتصاب والمجازر وذبح الأطفال والشيوخ والنساء، تشي بطائفة “أبطالها” صراحة من خلال لهجتهم: “بدكن حرية، هاي مشان الحرية”… إلخ، في محاولة واضحة لاستدراج رد فعل مماثلٍ، يقود إلى تسخين المواقف، ودفع الطوائف إلى الانخراط في حرب قاتل أو مقتول.

 علي العبدالله

صحيفة العربي الجديد