الربيع العربي والمعنى السياسي للشعب

الربيع العربي والمعنى السياسي للشعب

الشعب ركن أساسي من أركان الدولة القومية أو الوطنية، وللشعب مفهومان اجتماعي وسياسي، الأول يعني مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على إقليم الدولة والذين ينتسبون اليها عن طريق التمتع بجنسيتها ويطلق على هؤلاء بالمواطنين إذا كانوا يعيشون في دولتهم او رعايا إذا كانوا يعيشون خارجها. أما الثاني، فيعني إن كل من ينتمي إلى شعب ما برابطة الجنسية يتمتع بمجموعة من الحقوق السياسية منها على سبيل المثال وليس الحصر: حق الانتخاب وحق الترشيح -طالما توافرت الشروط القانونية اللازمة لذلك -، وحق حرية الرأي والتعبير، والحق في تولي الوظائف العامة. ومنذ تأسيس الدولة القطرية في الوطن العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى حرمت شعوب الدول العربية عن الممارسة الفعلية للحقوق السياسية تلك الحقوق التي تعد مدخلاً حقيقياً لتقدم الشعوب، ولعل مرد ذلك الحرمان يعود إلى الطبيعة الاستبدادية لتلك الدولة، وقد ترتب على ذلك الحرمان عدة نتائج من أهمها، اختزال السلطات الثلاث( التشريعية – القضائية- التنفيذية) بالحاكم المستبد، غياب مبدأ الكفاءة في تولي الوظائف العامة والاعتماد على منطق الولاء وعوامل المحاباة في توليها.
ولم يمنع انعدام الحقوق السياسية في الدولة العربية المستبدة، الجمهوريات المستبدة من اجراء بعض الممارسات الديمقراطية المزيفة كاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية كما كان في الحالة العراقية قبل الاحتلال الامريكي له، والحالة السورية أيضاً، أو بالانتخابات على منصب رئيس الجمهورية كما كان في الحالة اليمنية والمصرية أيضا، ونتائج الاستفتاء والانتخابات معروفة مسبقا ففي الجمهوريات العربية المستبدة يخرج الأموات من قبورهم للتصويت للرئيس إلى ما شاء الله. أما في الملكيات العربية الآلية معروفة في انتقال الحكم سواء بالاعتماد على نظام الوراثة العامودي أو الأفقي، ولا بأس من وجود مجلس نواب أو أمة أو مجلس استشاري كمظهر من مظاهر الديمقراطية.

هذا الموت في الحياة السياسية في الدولة العربية سواء كانت ملكية أو جمهورية انعكست على الحقوق الاقتصادية لغالبية الشعوب العربية، وتجلت نتائج ذلك الانعكاس بالآتي غياب العدالة ألاجتماعية انعدام المساواة بين المواطنين، ازدادت البطالة- حتى في الدول النفطية-، وأضحى الاقتصاد ريعياً لا منتجاً، استشرى الفساد في الدولة المستبدة، وليس خافياً على أحد بأن بعض الدول في الوطن العربي على سبيل المثال، العراق والصومال والسودان الجزائر ليبيا تتصدر لائحة الدول الفاسدة حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية.
ومع التحول الديمقراطي الذي شهدته دول أوروبا الشرقية ذات البنية الاستبدادية المشابهة للدولة الاستبدادية في الوطن العربي سواء قبل تفكك الاتحاد السوفييتي كالحالة البولندية، أو بعد تفككه كالحالة المجرية والبلغارية والرومانية على سبيل المثال. تفاءلت النخب السياسية العربية بذلك التحول الديمقراطي السلمي للسلطة، لذا عكفت معظم مراكز الدراسات السياسية في الوطن العربي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة على عقد مؤتمرات وندوات ونشر دراسات تتعلق بالتحول الديمقراطي في الوطن العربي، على غرار ذلك التحول. وحاولت تلك المراكز الاستعانة بنماذج ديمقراطية كالتجربة البولندية والمجرية للاستفادة منها في عملية التحول الديمقراطي وبالطبع، ليس ثمة دولة تشبه الأخرى، وكل مرحلة انتقال إلى الديمقراطية لها ظروفها الفريدة. فليس ثمة نماذج للتصدير أو مسارات التقليد.
لذا لم أبد أي اهتمام بتلك الدراسات، والمفروض عكس ذلك تماماً من باحث في العلوم السياسية، ولعل الدافع في عدم اكتراثي بها، على الرغم من تميزها على المستوى النظري، تعود إلى الفهم المتواضع لطبيعة السلطات الحاكمة في الوطن العربي سواء قبل أو بعد نهاية الحرب الباردة، تلك الطبيعة ذات البنية الاستبدادية التي لا تعترف بالحقوق السياسية للشعوب ولا تقبل الديمقراطية مضموناً، لأن الحقوق السياسية والديمقراطية الفعلية تنتقص من سلطات الحاكم المطلقة وتعتبرها عدوها اللدود.
وكنت على يقين تام بأن دولة الاستبداد العربي تريد شعباً بالمفهوم الاجتماعي وليس بالمفهوم السياسي، ولن تتزحزح عن ذلك المفهوم ما لم تجبرها قوة جارفة تفرض عليها إرادة الشعب، وليس الرهان فقط على المؤتمرات والندوات وتأليف الكتب والدراسات التي لن تأثر بها قيد أنملة. ولا الرهان على بعض الكتاب العرب الذين مازالوا مصدومين من التغيير العربي، الذين يرون في الحكام المستبدون أبناء بررة لشعوهم!
وجاءت القوة الجارفة – من حيث لا تحتسب كل التنظيرات السياسية والفكرية- من خلال عربة الخضار والفواكه لمحمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده معبراً عن رفضه لكل أشكال الحرمان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، نيابة عن الجماهير العربية المسحوقة، لينجز بذلك موعداً غير محدد مسبقاً للاستياء الشعبي ضد دولة الاستبداد، وليفتح أبواب التغيير بمستوياته المختلفة على مصراعيه، وليعيد الاعتبار لمفهوم الشعب من الناحية السياسية، حيث مارس الشعب التونسي لحقوقه السياسية بشكل فعلي بعد هروب الرئيس التونسي السابق زين في كانون الأول/يناير2011م، عندما أجريت انتخابات تشريعية نزيه أفرزت هيئة حكم منتخبة، وذلك الأمر انسحب أيضاً على مصر بعد تنحي الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في 11شباط/فبراير من ذات العام، عن الحكم، حيث شهدت مصر وشعبها أيضا انتخابات تشريعية نزيهة لمجلس الشعب والشورى، وما هذا ما لم يحدث منذ مدة طويلة، ان لم يحدث على الطلاق في تاريخ الجمهورية المصرية التي تأسست في عام 1952.

إلا أن هذا المفهوم السياسي للشعب الذي حاول الربيع العربي إحياءه تعرض لانتكاسة شديدة ولعل أهم أسبابها ويمكن إرجاع هذا التعثر لعدة أسباب لعل من أهمها، أولاً: أن الانتفاضات العربية كانت انتفاضات تلقائية لا تملك برنامجا وطنيا للتغيير، وكان التوافق بين النخب السياسية العلمانية واليسارية والقومية العربية والإسلام السياسي توافقاً سلبيا وليس إيجابيا يقتصر على الإطاحة بالرئيس التونسي والمصري والليبي فقط، دون النظر إلى التوافق الإيجابي والذي من مؤشراته المهمة الاتفاق على هُوية الدولة. ثانيًا: ان النخب السياسية العربية بمختلف أطيافها نخب انتهازية تتصارع على الحكم، وفشلت في أول اختبار حقيقي لها في إيجاد صيغة توافقية مرحلية لحكم الدولة، إذ انعدمت لدى تلك النخبة أسس ثقافة الديمقراطية كالقبول بالتعددية واحترام المشترك الوطني والحوار مع أحزاب وقوى مجتمعية لتضييق الفجوات بينها، فعلى سبيل المثال، رفعت في سوريا شعارات إقصائية تماما “إما الأسد أو نحرق البلد”، وفي مصر وبلحظة فارقة في تاريخها السياسي المعاصر تحالفت القوى الليبرالية والقومية والعلمانية واليسارية مع المؤسسة العسكرية للإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي

أما السبب الثالث، فيتعلق بالثورة المضادة ودورها في إفشال الانتفاضات العربية حيث اجتمعت تحت تلك الراية عناصر الحكم السابق والفلول وبعض الدول الإقليمية. وفي هذا السياق، وعلى سبيل المثال فإيران تقاتل حتى الموت للدفاع عن حليفها العربي بشار الأسد، والرئيس اليمني المخلوع على عبد الله صالح تحالف مع الحوثيين انتقاماً من الشعب اليمني الذي خلعه من الحكم. رابعاً: استغلت بعض التنظيمات الجهادية السلفية أوضاع الفوضى العربية من أجل تكفير كل المكونات السياسية في العالم العربي بما في ذلك حركات الإسلام السياسي كجماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة بتونس. كل هذه الأسباب مجتمعة حوّلت اللحظة التاريخية إلى لحظة تسونامي مدمرة، فالثورة المضادة من جهة تحولت إلى حروب أهلية في العديد من الدول العربية كاليمن وليبيا وسوريا. ومن جهة أخرى أعادت إنتاج الدولة الأمنية على نحو أسوأ مما كان عليه الوضع قبل الانتفاضات العربية.

نخلص للقول، أن الأحداث التاريخية كالربيع العربي والتي كانت إحدى أسبابه تعزيز الاعتبار لمفهوم الشعب بالمعنى السياسي وترسيخه في مؤسسات الدولة العربية، ولتحقيقه قد يحتاج هذا الأمر ربما سنوات، ومن دون الوصول إلى هذا المعنى في الممارسة العملية العربية ستبقى أبواب الدولة العربية مشرعة لإي اختلالات أمنية وسياسية واقتصادية.

معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية