العراق: القتال داخل القتال ضد “داعش”

العراق: القتال داخل القتال ضد “داعش”

مقاتلون من الشيعة العراقيين يستعدون لاستعادة بلدة البشير من "داعش" – (أرشيفية)

• في حين تتعاون الميليشيات العراقية الآن في العمليات ضد “داعش”، فإنها ستتنافس فيما بينها أيضاً على الأراضي التي تتم استعادتها.
• سوف تسخدم المجتمعات العراقية السياسية والعرقية مكاسب الميليشيات المرتبطة بها من أجل تعزيز سلطتها في بغداد.
• سوف تعطي أهمية الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً في القتال ضد “داعش” للمكون الموالي لإيران في المجتمع الشيعي مزيداً من النفوذ السياسي.
• المنافسة بين الميليشيات المدعومة إيرانياً والمدعومة تركياً سوف تجسد المنافسة الإقليمية التي تتجلى في العراق.
التحليل
ببعض الطرق، أخفى القتال الحالي ضد “داعش” في العراق نوع التقسيم العميق الذي يعاني منه البلد. وخلال حملتها ضد المجموعة الجهادية، تعاونت المجموعات العرقية والدينية الكثيرة في العراق مع بعضها بعضا في كثير من الأحيان. وموحدة بالرغبة في استعادة المناطق المحتلة من المجموعة الجهادية، نفذت قوات البشمرغة الكردية، والميليشيات الشيعية والميليشيات القبلية السنية العديد من العمليات المشتركة. لكن الأهداف المتعارضة والمتنافسة بين هذه المجموعات التي ترغب كل منها في كسب المزيد من الموارد الاقتصادية والأرض والنفوذ السياسي، سوف تقودها في النهاية إلى التضارب والصراع. وعلى مدار العمليات المشتركة نفسها، تجلت التوترات القائمة منذ وقت طويل بين الفصائل مسبقاً. لكن الصراع على النفوذ والسيطرة بين المجموعات سوف يظهر بشكل أكثر اكتمالاً ووضوحاً عندما تتغلب أخيراً على عدوها المشترك.
على الرغم من أن مجتمعات العراق العرقية والدينية تمارس نفوذها في البلد بطرق مختلفة، فإنها تتقاسم وسيلة واحدة تشترك فيها جميعاً لعرض هذا النفوذ: ميليشياتها. وفي العراق، كثيراً ما تترجم السيطرة على الأرض نفسها إلى مطالبات بالسلطة. ويشكل ذلك إلى حد كبير عرَضاً من أعراض ضعف قوات الأمن العراقية. فبعدد يقل عن 150.000 جندي في الخطوط الأمامية، تعاني قوات الجيش العراقي من ضعف القيادة والخدمات اللوجستية، ويتقاضى منتسبوها رواتب كئيبة ويعانون من معنويات منخفضة. ونتيجة لذلك، صعدت الميليشيات في العراق إلى الصدارة والهيمنة بعد أن وضعت الكثير من الدعم الذي تمس الحاجة إليه خلف قوات الأمن العراقية. وفي الوقت نفسه، تأتي الميليشيات للنجدة وهي تصطحب أجنداتها الخاصة.
المطالب الكردية
تشكل قوات البشمرغة الكردية أكثر الأمثلة وضوحاً على هذا الاتجاه. فقد لعبت قوات البشمرغة دوراً حيوياً وحاسماً في القتال ضد “داعش” -وليس بشن الهجمات وإحراز التقدم في استعادة الأرض فقط، وإنما بالتمسك بالأرض بعد تراجع قوات الأمن العراقية منها. ويسيطر الأكراد الآن على أراض في محافظتي صلاح الدين وديالى، وهي مناطق كانوا يطالبون بها منذ وقت طويل، لكنها تقع خارج حدود حكومة إقليم كردستان. وأكثر هذه المناطق إثارة للجدل هي كركوك، التي يسمها القادة الأتراك القدس الكردية. ومنذ الاستيلاء على كركوك في العام 2014، استخدم الأكراد سيطرتهم على حقول المنطقة النفطية لتحقيق مزايا كبيرة، حيث قاموا بتصدير النفط إلى مختلف الأسواق الخارجية.
بشكل عام، تتميز المناطق التي استولى عليها الأكراد بأنها متعددة الأعراق، لكنها تضم قطاعاً كبيراً من السكان الأكراد. وتطمح أربيل إلى جلب أجزاء من هذه الأراضي تحت الحكم الكردي الرسمي. وإذا لم يتمكن الأكراد من تحقيق هذا الهدف، فسيظل بإمكانهم استخدام سيطرتهم على المناطق لانتزاع تنازلات جديدة من بغداد. وربما يطالبون بتوصل الحكومة إلى اتفاق لتقاسم العوائد من كردستان العراق، والسماح للأكراد بتصدير النفط بشكل مستقل أو زيادة نسبة التمثيل الوزاري الكردي. وهناك في الوقت الحالي ثلاثة وزراء في الحكومة، لكن الأكراد الذين كانوا قد طالبوا بنسبة 20 في المائة من المناصب الوزارية في العراق، يشعرون بالقلق الآن من احتمال أن تكلفهم إصلاحات رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي المقترحة خسران المناصب. وبعد الحصول على مزيد من الأراضي خلال عملياتهم ضد “داعش”، سيحصل الأكراد على مزيد من الموارد، وبذلك المزيد من السلطة السياسية في بغداد.
وحتى لو أن بغداد تعارض السيطرة الكردية على هذه المناطق، فإن قوات الأمن العراقية مفرطة في التمدد والانتشار بكثافة قليلة بحيث لا تستطيع استرداد الأرض بالقوة. وبدلاً من ذلك، كانت الميليشيات الشيعية هي التي تحتل، وتتصادم بشكل متزايد مع قوات البشمرغة الكردية في هذه المناطق. ويلقي هذا شكوكاً كبيرة على ما إذا كان الفصيلان يستطيعان أن يتعاونا في عمليات أكبر حجماً، مثل القتال من أجل استعادة الموصل، والذي ربما يتطلب وجود أكثر من 40.000 جندي في الخطوط الأمامية.
سوف تلعب قوات البشمرغة دوراً مهماً في حملة الموصل. لكن المسؤولين الأكراد والعراقيين يصرون على أن هذه القوات لن تدخل المدينة نفسها. وبدلاً من ذلك، ستتلخص مهمة مقاتلي البشمرغة في استعادة المناطق المحيطة، والعمل كقوة دعم إلى الشمال والشرق من الموصل لمنع مقاتلي “داعش” من التفرق في أماكن أخرى. وبالنسبة لبغداد، يشكل احتمال وجود قوات كردية في الموصل مصدراً للقلق، لأن ذلك قد يمكن الأكراد من كسب مزيد من الأرضية في العراق. وفي الحقيقة، تقدم الموصل للأكراد فرصة بديلة. فقد كانت لهم على الدوام علاقة وثيقة بسكان المدينة العرب، ويمكن أن تستفيد القوات الكردية من السيطرة على البنية التحتية المهمة في الموصل، والتي تضم واحداً من المطارات الرئيسية في العراق. وربما يكون الأمر الأكثر جاذبية هو أن الأرض المجاورة للموصل صالحة للزراعة (على عكس أراضي كردستان الجبلية)، ويمكن أن تزود الأكراد بمزيد من الأمن الغذائي.
مع ذلك، سيكون تحقيق ذلك صعباً على الأكراد في واقع الأمر. وكما هو واقع الحال، فإنهم يكافحون مُسبقاً لدفع الرواتب لما يقرب من 160.000 مقاتل من أجل تأمين كامل المنطقة الكردية. وللاستيلاء على الموصل واحتلالها، سيكون على القوات الكردية أن تتعامل أولاً مع “الدولة الإسلامية”، ثم مع قوات الأمن العراقية والميليشيات الشيعية التي ستتحدى السيطرة الكردية. ومع ذلك، وإذا اجتذبت عملية الموصل قوات كردية أكثر مما هو متوقع، فإن من المرجح أن تحدث صدامات بين قوات البشمرغة وقوات الميليشيا الشيعية التي ستقاتل ضد توسعهم.
النفوذ الشيعي المتزايد
لعبت الميليشيات الشيعية دوراً رئيسياً في مساعدة قوات الأمن العراقية على استعادة المناطق من “داعش”، وخاصة في بغداد والرمادي وتكريت والفلوجة. وقد تلقت هذه الميليشيات التي تشكلت في البداية رداً على تهميش المجتمع الشيعي في العراق، التدريب والدعم من إيران فقط. وعلى الرغم من المحاولات الأخيرة لجلب هذه الميليشيات لتصبح تحت إدارة الحكومة العراقية، ما تزال إيران تقوم بتدريب وتمويل معظم القوات. وبعد إصدار رجل الدين الشيعي العراقي البارز آية الله العظمى علي السيستاني فتوى في حزيران (يونيو) 2014 بتأسيس قوة عراقية شبه عسكرية، استوعبت وزارة الداخلية العراقية العشرات من وحدات التحشيد الشعبي ضمن “قوات الحشد الشعبي”. لكن قادة الميليشيا يهيمنون على هذه القوة مع ذلك: حيث يشغل أبو المهدي المهندس، رئيس مجموعة ميليشيا كتائب حزب الله، منصب نائب قائد هذه الوحدات. ومع أن ميزانية العراق للعام 2016 خصصت نحو ملياري دولار لوحدات التحشيد، فإن الجزء الأكبر من دعم هذه القوات يأتي من إيران.
تدعم إيران بشكل مباشر أغلبية كبيرة مما يقارب 110.000 عضو في وحدات الحشد الشعبي. وفي حقيقة الأمر، تستخدم طهران نفوذها على الوحدات العسكرية من أجل تحقيق أهدافها السياسية الخاصة في العراق. وهناك العديد من الميليشيات الشيعية تحت القيادة المباشرة لقوة القدس، ذراع العمليات الخارجية للجيش الإيراني. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مجموعة من أكثر ميليشيات العراق فعالية –عصائب الحق، ومنظمة البدر، وكتائب حزب الله- تتحالف كلها مع طهران وتتلقى التدريب والتمويل منها. وبالاعتماد على هذه الميليشيات، فإن قوات الأمن العراقية تكون قد اعتمدت عملياً على الدعم الإيراني في عملياتها ضد “الدولة الإسلامية”.
ولكن، لا تعمل كل القوات الشيعية بالتناغم مع إيران. ومع أن الطائفة الشيعية هي الأكثر نفوذاً في السياسة العراقية والأكثر تمثيلاً في قوات الأمن العراقية أيضاً، فإنها تضج أيضاً بالانقسامات. ومع أكثر من 20.000 عضو في صفوفها، تعمل “كتائب السلام” (بقيادة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر) مستقلة عن إيران بشكل أو بآخر، حتى أنها انتقدت نفوذها في البلد، وكذلك فعل السيستاني أيضاً. والآن، تسعى إيران إلى جلب القوى الشيعية المنشقة إلى حظيرتها. ومن أجل توحيد الشيعة العراقيين تحت رعاية طهران، طلب مرشد إيران الأعلى آية الله علي خامنئي من الأمين العام لحزب الله الدعوة إلى مؤتمر في لبنان خلال أسبوع 11 نيسان (أبريل) من أجل الدفع بمزيد من التعاون بين الميليشيات الشيعية. ومن بين المدعوين قائد كتائب السلام، الصدر، وممثل عن السيستاني، ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. وسوف تعمل المكاسب التي تحرزها الميليشيات الشيعية في العمليات ضد “داعش” على إضافة المزيد من السلطة السياسية للكتل السياسية الموالية لإيران في بغداد، مثل المجلس الإسلامي الأعلى في العراق أو مكونات معينة من ائتلاف دولة القانون التابع للمالكي.
دور الميليشيات السنية
تفتقر الميليشيات السنية إلى التدريب والإمدادات التي تمتلكها الفصائل الكردية والشيعية، لكنها تلعب مع ذلك دوراً رئيسياً مهماً في القتال ضد “داعش”. وعلى وجه الخصوص، ستكون الميليشيات السنية مفيدة جداً في استعادة المناطق التي يقطنها السنة والاحتفاظ بها، حيث ستكون هذه القوات أقل احتمالاً لإثارة استياء السكان المحليين من قوات الأمن العراقية. وبالإضافة إلى ذلك، تساعد المشاركة السنية في مكافحة العواطف المناهضة للحكومة بين العراقيين السنة، والتي يمكن بخلاف ذلك أن تدفع البعض للانضمام إلى “داعش”. أما بالنسبة للميليشيات نفسها، فإنها تنضم إلى المعركة بشكل أساسي من أجل تقليص وجود الميليشيات الشيعية. وفي محافظة الأنبار، تعاونت المجموعتان بنجاح. لكن المزيد من نقاط الخلاف قد تنشأ بينهما في الموصل والفلوجة، بسبب التصور الطاغي بين الشيعة بأن المجتمعات السنية في تلك المدن دعت “داعش” للقدوم إلى هناك في المقام الأول. وربما تقود هذه الفكرة الميليشيات الشيعية الخرقاء والعنيفة مسبقاً إلى أن تكون أقل تمييزاً في تلك المناطق، وهو ما يمكن أن يتسبب بنشوب الصراع مع نظيراتها من السنة.
لكن هناك حدوداً للدور الذي ستلعبه الميليشيات السنية. ففي المقام الأول، ستكون هذه الميليشيات مترددة في التخلي عن أي أراضٍ تسيطر عليها للدولة العراقية. وبعد الإطاحة بصدام حسين، تم استثناء السنة عملياً من المشاركة السياسية والعسكرية في إطار سياسة اجتثاث البعث في العراق. وفي ظل حرمانهم من الحقوق، أصبح هدف السنة الرئيسي اليوم يتضمن تحصيل المزيد من التمثيل في الحكومة والمزيد من الحماية من الاضطهاد الشيعي. وقبل كل شيء، يريد السنة أن تفي بغداد بوعودها بدمج الميليشيات السنية في قوات البلد العسكرية. ومع أن العبادي أقنع وزارته بالموافقة على هذا الاقتراح في شباط (فبراير) 2015، فإن برلمان العراق الذي يهيمن عليه الشيعة ما يزال يعارض تسليح المقاتلين السنة.
في مقابل المشاركة في الحملة ضد “داعش”، سوف تطالب الميليشيات السنية بتنازلات سياسية. وكان رئيس الوزراء العراقي قد التزم بشكل عام طوال فترته في السلطة بترتيب ضمني بتوزيع المناصب السياسية العليا في العراق بين المجموعات الدينية والعرقية في البلاد. لكن المطلب الشعبي الأخير بتشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط طغت على كل القضايا السياسية الأخرى في العراق. وقبل وقت ليس ببعيد، صوت البرلمان العراقي على إقالة رئيسه السني من منصبه. ويعتقد الكثيرون من السنة الآن بأنه كان يجب أن يبقى في المنصب. ومن أجل الحيلولة دون المزيد من تهميشهم في النظام السياسي في العراق، سوف يطالب السنة بمزيد من التمثيل في الحكومة، وسوف يصرون -من بين مطالب أخرى- على أن يستمر السنة في شغل منصب وزير الدفاع.
بينما تقاتل الميليشيات الكردية والسنية والشيعية ضد “داعش” إلى جانب قوات الأمن العراقية، فإنها ستتنافس بالتزامن مع بعضها البعض. وتعكس هذه المنافسة -أكثر من مجرد الخصومات الطائفية- صراعاً وطنياً على النفوذ في العراق. وقد أثارت المنشآت العسكرية التركية الموجودة في شمال العراق، والتي تدعي أنقرة بأنها هناك لدعم قوات الحشد الشعبي السنية ومقاتلي البشمرغة، مزيداً من الشكوك في أوساط شيعة العراق. وتشعر بغداد -وكذلك طهران- بالقلق من احتمال أن تركيا تساعد هذه الميليشيات بهدف توسيع موطئ قدمها الخاص في شمال العراق. وبمجرد إلحاق الهزيمة بـ”داعش” وتمكُّن مصالح العراق المحلية والإقليمية العديدة من تحويل انتباهها إلى أجنداتها الأساسية، سوف تبدأ المعركة الحقيقية من أجل العراق.

ترجمة:علاء الدين أبو زينة

صحيفة الغد