دور الصين في الشرق الأوسط بعد الهيمنة الأميركية

دور الصين في الشرق الأوسط بعد الهيمنة الأميركية

لأكثر من عقد، خبر الشرق الأوسط، ومعه منطقة شمال إفريقيا، مستوى غير مسبوق في التاريخ الحديث من العنف وعدم الاستقرار -اضطرابات وفوضى لا تظهر أي إمارة على التوقف. وخلال هذه الفترة، أصبحت الاستدامة طويلة الأمد لدور الولايات المتحدة كضامن للأمن محمل تساؤل متزايد، في الولايات المتحدة وفي داخل المنطقة على حد سواء. وفي الأثناء، نمت استثمارات الصين في الشرق الأوسط، وكذلك حضورها الاقتصادي والدبلوماسي والأمني.
ضمن هذا السياق، هل ثمة إشارات على أن الولايات المتحدة والصين أصبحتا مسبقاً، أو ستصبحان متنافستين استراتيجيين في الشرق الأوسط بشكل حتمي؟
مصالح متعددة
لبكين طائفة واسعة من المصالح في الشرق الأوسط. وفي مقدمة هذه المصالح الوصول المستمر إلى موارد الطاقة في المنطقة. كما تضم مصالح الصين التجارية أيضاً توليد فرص استثمار جديدة، وتحصيل عقود مشاريع بنية تحتية للشركات الصينية، بالإضافة إلى كسب حصة في السوق لمنتجاتها. وتكمن المصلحة الرئيسية الثانية للصين في الشرق الأوسط في إقامة علاقات وبناء نفوذ لدى القوى الإقليمية، بعيداً عن حدود جوارها الآسيوي-الباسفيكي المباشر. وتحتل كل من السعودية وإيران ومصر مكانة مرموقة في حسابات بكين. كما تبقى المنطقة ككل مهمة بسبب موارد الطاقة الوفيرة التي تضمها، ولوقوعها عند نقاط تقاطع جيو-استراتيجية، ودورها المحتمل في إعادة توازن الاقتصاد الصيني في اتجاه الغرب، في إطار مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”. وثمة مصلحة ثالثة هي الحفاظ على الأمن المحلي عبر منع الأيديولوجيات المتطرفة والشبكات الجهادية المتجذرة في المنطقة من التسلل إلى داخل الصين. ورابعاً، للصين مصلحة عامة في الشرق الأوسط، كما في مناطق أخرى، كمسرح لنيل الاعتراف بها كقوة كبرى.
حصص متنامية
تستورد الصين أكثر من نصف احتياجاتها من النفط من دول الخليج، بالإضافة إلى استيراد ثلث ما تحتاجه من الغاز الطبيعي من هناك. وقد أسست شركات الطاقة الصينية الرئيسية مواطئ قدم للإمداد في الشرق الأوسط، بما في ذلك في العراق -والأحدث في أبو ظبي. وتمتد شراكات الطاقة الصينية الشرق أوسطية إلى مشروعات البتروكيماويات والغاز الطبيعي ومشاريع التكرير في الصين نفسها.
كما تمتد نشاطات وطموحات بكين التجارية في المنطقة إلى ما هو أبعد بكثير من قطاع الطاقة. ويشكل الشرق الأوسط سوقاً نامية لمنتجات المستهلك التي يمكن دفع ثمنها، وتعتبر الصين راهناً أكبر مصدر لواردات المنطقة. وتستورد البحرين ومصر وإيران والسعودية من الصين أكثر مما تستورد من أي بلدان أخرى. كما أن الشركات الصينية تفوز بعقود هندسة وإنشاء ومشاريع لتطوير البنية التحتية. وفي الأعوام الأخيرة، ارتفع حجم الاستثمار الصيني في المنطقة -في الجزائر ومصر وإيران والأردن وقطر والسعودية. وتسعى الصين إلى التعاون في قطاعات جديدة، بما في ذلك في الطاقة النووية والطاقة المتجددة وتكنولوجيا الفضاء.
هشاشة متنامية
حتى وقت قريب نسبياً، لم تشعر الصين بأن للصراعات الجارية في المنطقة تأثير مباشر على مصالحها. ومع ذلك، فإن اعتماد الصين الكثيف على طاقة الشرق الأوسط، وعلى طاقة الخليج بشكل خاص، جعلها هشة بشكل حاد أمام حالات التوقف المحتملة للإمداد، وارتفاع الأسعار بسبب الصراعات في المنطقة. وعلى الرغم من التقدم في تنويع مصادر إمداده من الوقود، فإن الاقتصاد الصيني يظل معتمداً بشكل كبير على النفط الشرق أوسطي، ويكون بذلك مكشوفاً أمام السياسات المتفجرة.
كنتيجة لتوسيع تواجدها في المنطقة، تجشمت الصين مخاطر إضافية. فقد رفعت الاضطرابات في الشرق الأوسط مخاوف صناع السياسة الصينيين من انتشار الأيديولوجية الإسلاموية، واحتمال إقدام الجهاديين الصينيين العائدين على ارتكاب أعمال إرهابية، بالإضافة إلى التعليق المحتمل أو التخلي عن عقود مربحة، أو إلحاق الضرر أو تدمير أصول استثمارية، أو تعريض العاملين والمغتربين الصينيين للخطر. وجعل التعرض المتزايد لهذه التهديدات المتنوعة من الضروري بمكان بالنسبة لبكين أن تطور بطريقة ماهرة الآليات الدبلوماسية والعسكرية التي يمكن أن ترد بها على هذه التحديات.
أكثر قدرة وأكثر نشاطاً، وإنما بحذر
ولد انخراط الصين العميق في الشرق الأوسط وما يكتنفه من مخاطر قسطاً كبيراً من التخمينات حول ما إذا كانت لدى الصين استراتيجية طويلة الأمد. وإذا كانت مثل هذه الاستراتيجية موجودة في الحقيقة، فيجب على القيادة الصينية أن تعلنها صراحة وعلى الملأ. وعلى الرغم من ذلك، يستطيع المرء أن يستشف من تصريحات وتصرفات المسؤولين الصينيين ثلاثة مفاهيم متصلة، والتي ترشد مقاربتها للمنطقة: 1) اشتر ما تحتاجه وبع ما تستطيع بيعه؛ 2) لا تتدخل في الشؤون المحلية ولا في العلاقات البينية بين الدول؛ 3) أكِّد أن الحوار والتنمية، وليس استخدام القوة، هما اللذان يجلبان الحل لمشاكل الشرق الأوسط، وبذلك تتميز الصين عن باقي القوى الخارجية في المنطقة.
تم تصميم تمسك بكين بعدم التدخل في الشرق الأوسط لتجنب الانخراط في الصراعات والنزاعات، ولغاية تجنب اتخاذ مواقف قطعية في القضايا المثيرة للجدل. ومن الواضح أن الصين ليست حريصة على الاضطلاع بدور مركزي كصانع سلام. وكانت “ورقة السياسة العربية” الأولى التي أصدرتها في كانون الثاني (يناير) من العام 2016 متسمة بالغموض. وحظيت المبادرات المؤقتة، مثل خطة بكين الرباعية الخاصة بسورية بقليل من الاهتمام. وقادت هذه العملية العديد من المراقبين إلى وصف سياسة الصين بأنها “حذرة” و”متوجسة” و”متجنبة للمخاطر”.
مع ذلك، ما تزال سياسة الصين في الشرق الأوسط، كما هي في غيره، تتسم بالمرونة والبراغماتية وتجريبية أكثر مما تصور في العادة. وقد أصبحت بكين أكثر نشاطاً بازدياد على الجبهة الدبلوماسية، وبشكل رئيس من خلال المؤسسات متعددة الأطراف، مثل جامعة الدول العربية والمنتدى الصيني-الخليجي، وفي تجنيد تسعة بلدان من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (مينا) كأعضاء في بنك استثمار البنية التحتية الآسيوية.
كما لعبت الصين أيضاً دوراً أمنياً أكثر ظهوراً في المنطقة في الأعوام الأخيرة، وعلى وجه الخصوص في مشاركتها في انتشار قوات حفظ السلام في جنوب السودان، بالإضافة إلى بناء أول قاعدة بحرية لها فيما وراء البحار، في جيبوتي. وعلاوة على ذلك، إخلاء غير المقاتلين من جانب المراكب البحرية التابعة للجيش الشعبي في ليبيا واليمن بالإضافة إلى تشريع يخول القيام بعمليات مكافحة للإرهاب تكون أكثر توسعاً خارج حدود الصين، مما يشير إلى أن الصين ترغب في تأمين مصالحها حول العالم، وبالقوة إذا لزم الأمر.
لكن نشاط الصين الجديد في الشرق الأوسط يعطي انطباعاً بأنه تعديل سلوكي للتطورات المتكشفة -النمو البارز في تواجدها التجاري المتبرعم في منطقة تعج بمخاطر سياسية عالية الوتيرة وعدم استقرار مزمن- بدلاً من استراتيجية كبرى لقوة عظمى، موضوعة بحصافة. وبشكل عام، يظل الحذر الاستراتيجي هو العلامة المميزة لمقاربة الصين للشرق الأوسط.
نحو نظام تعاوني لشرق أوسط ما بعد الهيمنة الأميركية
نما دور الصين في الشرق الأوسط دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً. ومع ذلك، فإن هذا الانخراط المتزايد لا يشكل بالضرورة مؤشراً على بداية منافسة استراتيجية بين الصين والولايات المتحدة.
أولاً، من الضروري الإشارة إلى أن المصالح الأميركية والصينية في الشرق الأوسط لا تتضارب مباشرة مع بعضها بعضاً. بل على العكس، فللولايات المتحدة والصين مصلحة مشتركة في التدفع المتواصل للنفط من الشرق الأوسط، وفي التصدي لنزعة التطرف العنيف في المنطقة.
ثانياً، أظهرت الصين القليل من الدلائل على أنها ترغب في تحدي هيمنة الولايات المتحدة العسكرية على المنطقة -لأسباب جيدة. فالصين تستفيد من الدور الأميركي كضامن للأمن من دون تحمل تكلفة مالية أو سياسية محتملة. وبالإضافة إلى ذلك، يحول الحفاظ على تواجد عسكري ضخم في الخليج والمنطقة المحيطة بدرجة ما اهتمام الولايات المتحدة ومواردها بعيداً عن شرق آسيا، المنطقة ذات الأولوية الجيو-استراتيجية العليا بالنسبة للصين.
ثالثاً، لا تمثل الدعوات التي يوجهها إلى الصين أصدقاؤها الشرق أوسطيون لغاية الاطلاع بدور صيني أكبر في المنطقة رغبة لديهم في استبدال الهيمنة الأميركية بالصين. فأصدقاء أميركا العرب التقليديون –مهما كان حجم اعتراضهم على سياسات واشنطن أو فقدانهم الثقة في عزيمتها وديمومة التزاماتها- يستمرون مع ذلك في اعتبار الولايات المتحدة شريكاً أمنياً ضرورياً. ويشكل وصولهم إلى الصين جهداً لتنويع تعاونهم الأمني، وليس للتقليل من أهمية أو قطع العلاقات مع الولايات المتحدة.
أما بالنسبة لإيران، الخصم الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، فإن مشروعها لتعزيز موقفها الإقليمي وإبعاد الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط في نهاية المطاف، هو رؤية لا يتقاسمها الصينيون معها بالضرورة. وفي الحقيقة، سعى شركاء وخصوم الولايات المتحدة على حد سواء في الأعوام الأخيرة إلى استغلال علاقاتهم مع بكين لكسب اليد العليا في الصراعات الداخلية أو في النزاعات السياسية. وفي هذا السياق، تعتبر أهداف وأولويات مختلف دول الشرق الأوسط وتلك الخاصة بالصين -والموجهة نحو علاقات توازن إقليمي وتجنب المواجهة مع الولايات المتحدة- غير مناسبة وفي غير مكانها.
وهكذا، فإن احتمالات تفجر منافسة استراتيجية محتدمة في الشرق الأوسط بين الصين والولايات المتحدة هي أكثر بعداً مما تبدو عليه، خاصة في المدى المنظور. وعلى المدى الأطول، فإن القدرات العسكرية الصينية المتزايدة، إلى جانب تصاعد التوترات بين أميركا والصين في غرب الباسيكفي، يمكن أن تتحول إلى الشرق الأوسط، مشعلة فتيل هذه المنافسة. واستشرافاً لتطور من هذا القبيل، سيكون من الحصافة أن تستكشف الولايات المتحدة سيناريوهات كسب-كسب بدلاً من افتراض محصلات الصفر.
تظل القدرات الصينية والأميركية التي تسهم في استقرار المنطقة مكملة لبعضها بعضاً. والذي يستطيع فعله البلدان سوية هو أكبر مما يتوقع من كل واحد منهما إنجازه بمفرده من الناحية الواقعية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاستقلال المتزايد للولايات المتحدة في مجال الطاقة بفضل ازدهار غاز النفط الصخري في الجزء الضخم منه، يشكل حافزاً وفرصة للمشاركة في الأعباء المالية والعسكرية مع الصين ويعزز الاستقرار في الشرق الأوسط. ويمكن أن يمهد تنسيق السياسة الأميركية والصينية في هذا الفضاء الطريق للاعبين آخرين من خارج المنطقة، ممن لديهم مصالح واستثمارات في المنطقة -بلدان مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية- ليلعبوا أدواراً بناءة. ومن الممكن أن يساعد انتهاز هذه الفرصة، ليس في تسهيل الانتقال من نظام هيمنة بقيادة الولايات المتحدة إلى نظام هيمنة بقيادة الصين في المنطقة وما وراءها، وإنما إلى نظام يكون أكثر تطوراً  لصالح الفائدة والسلم في البلدين.

جون سالابريس

صحيفة الغد