بدائل محدودة: هل يمكن الحفاظ على حيادية المؤسسات الاقتصادية في ليبيا؟

بدائل محدودة: هل يمكن الحفاظ على حيادية المؤسسات الاقتصادية في ليبيا؟

49361

يطرح تصاعد حدة الصراع في ليبيا منذ سقوط نظام الرئيس السابق معمر القذافي في عام 2011، والذي أسفر في النهاية عن وجود حكومتين وبرلمانين، تساؤلات عديدة حول ما إذا كان بإمكان المؤسسات الاقتصادية الرئيسية في الدولة، لا سيما المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، الالتزام بالحيادية في تقديم السلع والخدمات العامة، والبقاء بعيدًا عن ذلك الصراع، خاصة في ضوء الضغوط العديدة التي تفرضها بعض الأطراف السياسية والميليشيات المسلحة على تلك المؤسسات، بشكل ربما ينتج في النهاية تداعيات سلبية خطيرة على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.

حياد مطلوب:

أرست الاتجاهات النظرية والممارسات العملية مبدأ عامًا يتعلق بأهمية ضمان التزام أجهزة الدولة بالنزاهة والشفافية والحيادية في تقديم السلع والخدمات العامة، ولكن الوضع يبدو مختلفًا على نحو ملحوظ، خلال فترات الصراعات السياسية التي تشهدها بعض الدول، إذ ربما يكون تحقيق تلك الأهداف أمرًا صعب المنال، رغم أنها تصبح في هذه الحالة أكثر إلحاحًا بسبب التداعيات السلبية العديد التي تفرضها تلك الصراعات، التي تؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر وانهيار العملة الوطنية وتدهور الاحتياطي النقدي وتزايد أعداد اللاجئين.

وفي حالة ليبيا، يشير عدد من المراقبين الدوليين إلى أن المصرف المركزي حرص على البقاء بعيدًا دون الانغماس في الخلافات السياسية المتصاعدة، واستمر في الالتزام بتمويل النفقات العامة لجميع أنحاء البلاد شرقًا وغربًا، وصرف أموال دعم الوقود والغذاء، وكذلك رواتب الموظفين. وربما يمكن القول إن حرص المصرف على تبني تلك السياسة يرتبط في المقام الأول باستقلال مؤسسة النفط الوطنية، والتي تعد الكيان الرئيسي لتنظيم قطاع النفط والغاز في البلاد. وقد دفعت المحاولات الحثيثة التي بذلتها الأطراف المختلفة، منذ اتساع نطاق المواجهات المسلحة، للسيطرة على المؤسستين، إلى إصدارهما بيانات متعددة لتأكيد التزامهما بالنأي بعيدًا عن ذلك الصراع.

محاولات تسييس مؤسسات الدولة:

لكن رغم ذلك، فإن ثمة مؤشرات عديدة تزيد من احتمالات حدوث تغير ملحوظ في تلك السياسة التي تلتزم بها المؤسستان، تتمثل في:

1- تغيير القيادات: صوت مجلس النواب الليبي المعترف به دوليًا، في 14 سبتمبر 2014، على إقالة محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، بدعوى ارتكاب مخالفات مالية والتحالف مع جماعات إسلامية بالعاصمة طرابلس، حيث تم تكليف نائبه على الحبري برئاسة المصرف لحين تعيين بديل له، وهو ما أدى إلى تحويل المنصب إلى محور للصراع بين الطرفين، خاصة أن الصديق الكبير كان قد أصدر، قبل ذلك بيومين، قرارًا بتحويل الحبري وبعض المسئولين الآخرين، إلى التحقيق بسبب اتهامهم بتحويل مبلغ 80 مليون دينار ليبي من حساب المؤتمر الوطني الذي انتهت ولايته إلى البرلمان الجديد في طبرق. كما أعلنت حكومة عبد الله الثني في طبرق، في 13 ديسمبر 2014، عن تعيين المبروك أبو سيف رئيسًا لمجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط بدلا من مصطفى صنع الله، وذلك، دون أن تعترف حكومة الغرب بهذه التغييرات بطبيعة الحال.

2- نقل المقرات: مازالت المقرات الرئيسية المعترف بها لكل من المصرف المركزي ومؤسسة النفط الليبية تقع في العاصمة طرابلس حتى الآن، إلا أن حكومة الثني بذلت محاولات حثيثة قبل نهاية عام 2014 بهدف نقلها إلى طبرق، وفي هذا الصدد تبنت الحكومة، في 20 ديسمبر 2014، نظامًا جديدًا لتحصيل الإيرادات النفطية يجنبها المرور عبر البنك المركزي في طرابلس، الذي لا يخضع لسيطرتها، ويقضي بأن يتم تحويل المدفوعات إلى أحد فروع البنك المركزي في شرق ليبيا.

3- ضغوط أمنية :تعرضت المؤسستان لتهديدات أمنية متعددة، بسبب المحاولات التي بذلتها بعض التنظيمات للسيطرة عليها في يناير 2015، وهو ما أثار مخاوف عديدة من إمكانية اتجاه بعض مسئولي المصرف المركزي أو مؤسسة النفط في طرابلس، تحت الضغوط التي تفرضها الميليشيات، إلى توظيف الأموال بطرق غير مشروعة من ناحية ومنع وصولها إلى مناطق الشرق لتمويل النفقات العامة من ناحية أخرى.

سيناريوهات محتملة:

ربما يمكن القول إن المحدد الرئيسي لنجاح طرف أو آخر في بسط سيطرته على المؤسسات الاقتصادية، يتمثل في حصوله على الشرعية من جانب المجتمع الدولي، وهو ما يدعم من احتمالات نجاح حكومة الثني في السيطرة على المؤسسات الاقتصادية في النهاية. ومع الأخذ في الاعتبار التداعيات الأمنية المحتملة التي يمكن أن تفرضها تلك الخطوة، يمكن طرح سيناريوهين رئيسيين: الأول، يتعلق بتجاوز حكومة الثني فرضية نقل المقرات إلى طبرق وإمكانية إدارة المؤسسات الاقتصادية من الشرق فقط، وذلك تخوفًا من تعرضها لضعوط أمنية من قبل الجماعات المسلحة بالغرب التي ربما تحاول التحرك نحو طبرق لعرقلة تلك الإجراءات.

الثاني، وهو الأقرب للتحقق، ينصرف إلى اتخاذ إجراءات نحو نقل مقرات المؤسسات إلى طبرق، لكن ذلك يتطلب درجة أعلى من التأمين. ومع أنه يفرض هامشًا أوسع من الحركة أمام حكومة الشرق، خاصة فيما يتعلق بتحديد أوجه النفقات العامة وصرفها، إلا أنه ربما يواجه صعوبات عديدة، في تحويل مخصصات تمويل النفقات العامة للمناطق التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة.

وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن تصاعد حدة الصراع داخل ليبيا حول السيطرة على المؤسسات الاقتصادية الرئيسية، سوف ينتج تداعيات أمنية وإنسانية لا تبدو هينة، في الوقت الذي لا تتوافر فيه مؤشرات تكشف عن احتمال الوصول إلى تسوية قريبة للأزمة.

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية