تحديد سياق الجهاد والتكفير في إطار المفهوم الشيعي

تحديد سياق الجهاد والتكفير في إطار المفهوم الشيعي

إن الفوارق في الاختلاف الفقهي بين المفهوميْن السنّي والشيعي للجهاد حدّدها بشكلٍ من الأشكال تاريخ المجتمع الشيعي ومقاربة علماء الدين الشيعة للسياسة.

رغم أن المفهوم الشيعي للجهاد يتماشى غالبًا مع المفهوم السنّي، حدّدَ التاريخ المختلف للمجتمع الشيعي كيفية تطوّر الجهاد وتطبيقاته. فيشتقّ المصطلح “شيعي” من الكلمة العربية “شيعة” (“حزب سياسي”) وجاء ليرمز إلى أتباع علي، إبن عم النبي محمد ونسيبه. فعندما قُتل الخليفة علي في سنة 661، سلّط موته الضوء على الظلم الكبير المرتكَب بحق الرجل الأول الذي اعتنق الإسلام وصاحب الصفات الاستثنائية التي تُشبه صفات النبي محمد والتي توحي بالحفاظ على إرثه، وهو ما اختلف بعدة أشكالٍ رئيسية عن الرواية السائدة (لدى السّنّة). أمّا الحدث الثاني الذي شكّل أكثر من غيره الإيديولوجيا الشيعية والتقليد الشيعي، فكان استشهاد الحسيْن ابن علي في سنة 680 على يد الخليفة الأموي يزيد في كربلاء بعد أن اعترض الإمام الحسين على تعيين الخليفة الأموي معاوية لابنه يزيد خلفًا له، مستبعدًا مطالبة الحسيْن بالخلافة.

استشهاد الحسين

أنشأت مجزرة الإمام الحسين وأفراد أسرته ومناصريه بُعدًا أسطوريًّا وإيديولوجيًّا واجتماعيًّا-سياسيًّا في الإسلام الشيعة، حيث أصبح هذ الاستشهاد محوريًّا بالنسبة إلى هوية الشيعة وتقليدهم ولاهوتهم. فكان الإمام الحسين مثالًا لمعارضة الاستبداد والاضطهاد وللكفاح ضد المظالم المزمنة في العالَم. ولا يقلّ أهمّيّةً عن ذلك في الوعي الجماعي الشيعي القيام بإذلال جسد حفيد النبي وتدنيسه. ولأكثر من ألف عامٍ، وحتى مجيء آية الله الخميني، مال العلماء الشيعة إلى التهرب من السياسة – معتبرين الخلفاءَ السنة كمغتصبين للسلطة – وإلى الدفاع عن الهدوئية السياسية، لاسيما باعتبار أن الشيعة هم أقلية خالدة في الفكر الإسلامي.

إلا أن مثال الإمام الحسين ومن ثمّ مقتل أحفاد النبي محمد على يد الخلفاء السنّة هو ما شكّل بشكلٍ أساسي المفهوم الشيعي للجهاد. فبحسب طائفة الشيعة الاثنيْ عشرية الأكبر، كان اثنا عشر إمامًا – من سلالة النبي – الحكّام الشرعيين للأمّة الإسلامية بأكملها. لكنّه تمّ قتل أحد عشر إمامًا ولم ينجُ سوى الإمام الثاني عشر الذي أخفاه الله في سنة 874. وأُنقِذ الإمام الثاني عشر حتى يعود في النهاية بصفة المهدي و”يملأ الأرض قسطًا وعدلًا” مع يسوع.

المفاهيم المتبدّلة للقيادة

خلافًا للعقيدة السنّية، تعتقد المجتمعات الشيعية بشكلٍ أساسي بعصمة الأئمة وبقيادة الإمامة للأمّة. لكن في ظل غيبة الإمام الثاني عشر، استلم المجتهدون قيادة الأمّة، وهم علماء مطّلعون في الإسلام، بمثابة وكلاء إلى حين عودة المهدي. فترك هذا الانتقال للسلطة من القيادة المعصومة إلى القيادة غير المعصومة مجالًا للنزاع، لا سيّما من ناحية متى يجب إعلان الجهاد وإذا ما يجب إعلانه.

في النهاية، برزت مدرستان للفقه الشيعي عالجتا الدور الروحي والاجتماعي-السياسي للعلماء في ظلّ غياب الإمام المخفي. فاعتبرت المدرسة الإخبارية بشكلٍ عام، على غرار الإسلام السنّة، أن القرآن وأقوال النبي والأئمة (الأخبار) كافية لتوجيه المؤمنين من دون استخدام الاجتهاد – وهو إصدار حُكمٍ وتفسير المخطوطات المقدَّسة بشكلٍ علمي مستقل. والمهم هو أن المدرسة الإخبارية رفضت شرعية الجهاد في خلال غيبة الإمام.

في المقابل، اعتبرت المدرسة الأصولية أن المؤمنين طلبوا من المجتهدين الشروع بالاجتهاد لمواصلة توجيه الأمّة. وبحسب هذه النظرة، على كل مؤمنٍ أن يتبع أحد المجتهدين، فيكون هذا المجتهد بمثابة مرجع تقليد: أي نموذج يُحتذى به ويمكن اتّباعه. وأصبح كبار المجتهدين يُدعَون آية الله (علامة من الله)، ما تطوّر إلى مفهوم مرجع تقليدٍ واحدٍ يخضع له كل الباقين. وبالتالي، تولّى كبار المجتهدين الواجبات الدنيوية التي كانت تُعتبَر سابقًا من صلاحيات الأئمة المعصومين. فباستطاعة المجتهدين الآن، من جملة أمورٍ أخرى، أن يعلنوا الجهاد (الحرب المقدَّسة)، وأن يُصدروا أحكامًا قانونيّةً ملزِمةً عبر تطبيق أحكام المنطق على المصادر الإسلامية الموجودة.

انتصر نموذج المدرسة الأصولية على نموذج المدرسة الإخبارية، وأتت النهاية المنطقية لأهلية كبار المجتهدين، كوكلاء الإمام الثاني عشر، في فكرة ولاية الفقيه الخاصة بآية الله الخميني (حُكم الفقيه العادل/وصاية الفقيه). ومن المهم الذكر أنه، وخلافًا للفقهاء السنّة الذين تطلّعوا إلى إعادة بناء السلطة المسلمة، رأى معظم المجتهدين وما زالوا يرون أن الجهاد التوسّعي أو الهجومي ليس شرعيًّا في ظلّ غياب الإمام المخفي. وفي المقابل، يعتقد معظم المجتهدين على غرار الفقهاء السنّة أن الجهاد الدفاعي ضد الاعتداء الأجنبي على الأمّة إلزامي.

الخميني وتوسّع الجهاد

خلافًا لتطوّر الجهاد بشكلٍ موسّع لدى بعض المنظّرين السنّة في خلال العصر الحديث، بقي المفهوم الشيعي للجهاد كمفهومٍ يُمارَس غير محسومٍ نوعًا ما حتى نهاية السبعينات [بقي الإجماع غائبًا، إلا أن الخميني طوّر المفهوم أكثر فأكثر]. ففي خلال تلك الحقبة، أعطى الخميني مجموعةً من المحاضرات في مدينة النجف في العراق، وشدّد على مبادئ ولاية الفقيه، وهو مفهومٌ ثوريٌّ شكّل في النهاية الدافع الإيديولوجي للثورة الإيرانية وتبنّاه الكثير من كبار الفقهاء الشيعة الآخرين أيضًا.

نشأت هذه المبادئ من نظرة الخميني إلى العالَم على أنه منقسمٌ بين الظالمين والمظلومين، فضلًا عن اعتقاده بأن النضال في سبيل إنقاذ المظلومين وتحريرهم من قبضة الظالمين هو واجبٌ ديني. وأكّد على ضرورة إنشاء حكومة إسلامية لتطبيق تعاليم الإسلام وتوفير العدالة وتوحيد الأمّة التي تفككت بسبب الاقتتال الداخلي والتأثير والاعتداء الخارجييْن. وحدّد الحكومةَ الإسلامية المثالية على أنها نوعٌ خاص من الحكومة الدستورية مترسّخٌ في القوانين الإسلامية ومنوطٌ بالفقيه الأكثر كفاءةً، وهو نموذجٌ سيحدد شكل النظام الحكومي لجمهورية إيران الإسلامية. فسوّغ الخميني قائلًا:

أعطى الله عزّ وجلّ الصفة المطلوبة لممارسة الحُكم إلى عددٍ كبيرٍ من علماء الدين منذ بداية الإسلام حتى قدوم إمام العصر. وهذه الصفة هي المعرفة المتعلقة بالقانون والعدالة. ويتمتّع عددٌ كبيرٌ من علمائنا العصريين (الفقهاء) بهذه الصفة وعليهم أن يشبكوا الأيادي. فسيكون باستطاعتهم إنشاء حكومة عادلة في العالَم.

بناءً على ذلك، رأى الخميني أن الثورة ضد الأنظمة الاستبدادية لإنشاء حكومة إسلامية هي السبيل الوحيد الصحيح، وذَكَرَ تقاليد الماضي لربط الجهاد بوصاية الفقيه وبتنبيه القرآن في ما يخص فرض الخير ومنع الشر. وشدّد الخميني على أن “[الخطوة] الأولى هي مبدأ حُكم الفقيه، والثانية هي أن يقوم الفقهاء، من خلال الجهاد والتمتع بالخير ومنع الشر، بفضح الحكّام المستبدّين والإطاحة بهم وتحريك الناس حتّى تتمكّن الحركة العالَمية المؤلّفة من المسلمين اليقظين من إنشاء حكومة إسلامية مكان الأنظمة الاستبدادية”. كما شدّد على أنه من خلال تثقيف الناس حول الإسلام “سيصبح كافة السكّان من المجتهدين”.

تشكّل هذه الصورة الجديدة للجهاد التي تُظهره كأداةٍ لمكافحة الأنظمة الاستبدادية وجهةَ نظرٍ مشابهة لوجهة نظر الفقهاء السنّة. ففي الواقع، حتّى آية الله مرتضى مطهّري – وهو منظّرٌ إيديولوجي أساسي في الثورة الإيرانية رَفَضَ الجهاد الهجومي – أجاز مع ذلك الجهاد ضد مجموعةٍ استبداديةٍ ترتكب المظالم ضد شعبٍ مضطهَد. ودافع بشكلٍ خاص عن إمكانية قبول الجهاد عندما يتمتع المسلمون بالسلطة لمساعدة مجموعةٍ تُنتَهَك حقوقها على يد مجموعةٍ أخرى.

جهاد الخميني كمفهومٍ مطبَّق

اقترنت فكرة الجهاد هذه ضد الاستبداد والظلم، وهي قائمة على تقليد استشهاد الإمام الحسين، بتطوّر الجهاد كحركات مقاومة. فقوّى تخوّف الشيعة من المظالم المنتشرة في الماضي والحاضر هذا الإحساس بالحاجة إلى المقاومة الناشطة، وهي وجهة نظر تحوّلت إلى المبادئ التوجيهية لمنظّماتٍ مثل “حزب الله”. فقد أيّد آية الله محمد حسين فضل الله، الذي يُعتبر المرشد الروحي الراحل لـ”حزب الله”، الجهاد ضد الاحتلال على أنه حركة دفاعية. إلى ذلك، رغم الإشارة إلى الفرق اللغوي بين “الانتحار” و”بذل الذات”، سمح فضل الله بعمليات الانتحار كشكلٍ من المقاومة العسكرية وبالاستشهاد على مثال الإمام الحسين. فشرح فضل الله قائلًا:

إن قتل النفس هو مثل قتل أي كائنٍ بشري آخر؛ فهو يتطلّب إذنًا. يحتاج المرء إلى إذنٍ من الله لقتل نفسه أو لقتل الآخرين… وقتل النفس أو الآخرين أمرٌ حرامٌ مبدئيًّا (يمنعه الدين)؛ لكن في خلال الجهاد (الحرب المقدَّسة أو النضال المقدَّس في سبيل الإسلام)، الذي يشكّل حربًا دفاعيةً أو وقائيةً بحسب الإسلام، يصبح القتل مقبولًا ومسموحًا، إذ يُعتبَر الجهاد حالةً استثنائيةً.

حدّد هذا الخطاب الجهاد والمقاومة على أنهما وجهان مختلفان للعملة نفسها، مطوّرًا فكرة الجهاد إلى حركة مقاومة اجتماعية-سياسية شاملة. ففي الكتاب الذي يحمل عنوان حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل والذي صدر في سنة 2009، حدّد نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم هذه المجموعة على أنها “حركة جهادية هدفها بالدرجة الأولى جهاد العدو الصهيوني”، وتطرّق بشكلٍ موسّع إلى نموذج المقاومة الخاص بـ”حزب الله” قائلًا:

المقاومة بالنسة لحزب الله، هي رؤية مجتمعية بكل أبعادها، فهي مقاومة عسكرية وثقافية وسياسية وإعلامية، هي مقاومة الشعب والمجاهدين، ومقاومة الحاكم والأمّة، ومقاومة الضمير الحر في أي موقعٍ كان.

إن النظرة الشاملة لقيادة “حزب الله” في ما يخص المقاومة عزّزت المنطقة الرمادية الإيديولوجية التي طوّرها الفقهاء الشيعة العصريون بين الجهاد الدفاعي ونموذج مقاومة الاضطهاد الذي يمكن تصنيفه في حالاتٍ أخرى بمثابة جهادٍ هجومي. فمن وجهة النظر المؤاتية الغربية، شكّل الجهاد الذي يظهر على شكل مقاومة، إنما الذي يحدث خارج حدود لبنان، أعمالًا إرهابيةً.

النموذج البديل للجهاد في الفقه الشيعي

خلافًا لتعاريف الجهاد الموسّعة مؤخّرًا التي طوّرها بعض الفقهاء الشيعة، بقي معظم الفقهاء حذرين من توجيه تهمة التكفير من دون الامتثال للفقه الإسلامي. وقد وضع إطار هذا الحذر آية الله علي الحسيني السيستاني، الفقيه الأكبر في العراق ومرجع التقليد، الذي حددالكافر على أنه شخصٌ ملحد أو غير مسلم أو مسلم أنكر الوحي. كما حافظ السيستاني على تعريفٍ محصورٍ جدًّا للجهاد، وحصر الإعلان القانوني عن الجهاد بالإمام المعصوم أو نائبه الخاص.

على نطاقٍ شامل، تتعدد معاني مفهوم الجهاد بالنسبة إلى كلٍ من الشيعة والسنّة. ويكمن أحد الاختلافات النظرية الأساسية بين المفهوميْن في الاعتقاد الشيعي بأن الجهاد الهجومي لا يمكن تنفيذه في خلال غيبة الإمام المخفي، مع أن الجهاد الدفاعي لمساعدة المظلومين ما وراء حدود المجتمع المسلم المعني يمكن أن يحصل إذا تماشى مع الحكم القانوني للمجتهد. والجدير بالملاحظة هو أن إيديولوجيا السلفية الجهادية تحدد مفهوم الجهاد بشكلٍ مماثل على أنه يجري دفاعًا عن الإسلام، لكنّ المفهوم الشيعي للجهاد لا يأخذ في الاعتبار هدف السلفية الجهادية المتمثّل في إعادة تشكيل السلطة السياسية المسلمة، ولو في حالة الاضطهاد.

الأهم من ذلك هو أن إعلانات الجهاد والتكفير منظّمة أكثر ضمن المجتمع الشيعي بما أنها تقتصر على مرجع التقليد، فيما طبّق المنظّرون الإيديولوجيون من السلفية الجهادية وجهات نظرهم الخاصة عن “الآخر” على إعلانات الجهاد والتكفير، لا سيّما الآخر الغربي ككافرٍ مجرّد من الصفات الإنسانية، فاعتبروه بالتالي هدفًا شرعيًّا يمكن قتله. فلم يشعر تنظيما “القاعدة” و”الدولة الإسلامية” بتبكيت الضمير حيال ذبح الكفّار في العالَم المسلم والعالَم الغربي. وخلافًا للمجموعات السنّية المتطرّفة مثل “القاعدة” و”الدولة الإسلامية”، تحوّل مفهوم الجهاد الشيعي أكثر إلى حركة دينية جيوسياسية تؤثّر في السياسة الخارجية الأمريكية، كما يعبّر عنه كلٌّ من إيديولوجيا الخميني و”حزب الله”.

من المهم فهم أن هذه الصورة للجهاد الشيعي، إلى جانب أشكال السلفية الجهادية السنّية التي نشرها مؤخّرًا تنظيم “الدولة الإسلامية”، هي تشويهات لتعاليم الإسلام السائدة ولا تمثّلها كما يُزعَم أحيانًا. فبالنسبة إلى معظم المسلمين، سواء من السنّة أو من الشيعة، يعني الجهاد “الأصغر” بشكلٍ لا لبس فيه الدعوةَ إلى الحرب الدفاعية عندما يتعرّض المرء للهجوم المباشر، فيما يبقى الجهاد “الأكبر” كفاحًا مع الذات من أجل العيش بشكلٍ أخلاقي وفاضل. فيتجاوز كلٌّ من هذيْن المفهوميْن المجتمع المسلم، ويُعترَف بهما على نطاقٍ واسع على أنهما معقولان وعادلان.

من خلال تأريخ التعاريف المتطرّفة للجهاد ورفض تشريع ادّعاءات المتطرّفين بأنهم يوفّرون تفسيرًا غيرَ تاريخي و’صحيحًا‘ عن الجهاد والتكفير، يمكن أن يساعد المسؤولون الأمريكيون في تقليص التأثير المتضخّم الذي أحدثته المجموعات المتطرّفة في بعض أساليب الفهم الغربية للمفاهيم الإسلامية، وتقليص الجاذبية الإيديولوجية التي يمارسها التطرف على أولئك الضالّين والباحثين عن تفسيراتٍ حقيقية للإسلام. فيستفيد كلٌّ من المسلمين وغير المسلمين ما إن يتّضح للجميع أن تعاريف المتطرّفين للجهاد والتكفير هي تغييرات هامشية لمصطلحيْن طالما كانا محدّديْن مسبقًا على أسسٍ سليمة ضمن الإطار السائد في الإسلام.

روبرت رابيل

معهد واشنطن