العالم العربي على أعتاب فقر مائي

العالم العربي على أعتاب فقر مائي

حذّرت تقارير أممية صدرت مؤخرا من أن الأمن المائي في العالم العربي بات مهددا مع تراجع حصة المياه المخصصة للفرد لعوامل جغرافية وأخرى تخص تغير المناخ والنمو السكاني. ولتجنّب أزمة مياه متوقعة قد تزيد من حدة التوترات السياسية في
المنطقة، يقترح خبراء دعم تجارة المياه الافتراضية لتخفيف الضغط على الموارد المائية التقليدية وللحد من وتيرة الصراع الجيوسياسي على المياه.

صُنف تقرير للأمم المتحدة تناول تنمية الموارد المائية لعام 2019 أغلب دول المنطقة العربية في خانة خط الفقر والعجز المائي. وحذّر التقرير من أن نصيب الفرد من الموارد المائية في تراجع كبير، فيما يجعل التوزيع المتباين لمصادر المياه العديد من المناطق مصنفة في “خط الفقر المائي” الذي يعادل 1000 متر مكعب و”خط الفقر المائي المدقع” إذا نزل تحت سقف 500 متر مكعب. والحال أن جميع الأرقام تشير إلى أن حصة المواطن العربي تراجعت إلى أقل من 1000 مكعب.

وتحذر هذه الأرقام من أن الأمن العربي يتعرض لتهديدات وتحديات وجب التصدي لها تجنبا لسيناريوهات أكثر سوءا وهو شحّ المياه على المدى القريب. وتبيّن الحقائق الجغرافية أن أغلب أراضي المنطقة العربية تقع في المنطقة الجافة وشبه الجافة التي يقل فيها معدل الأمطار عن 300-500 ملم سنويا، وتتزايد حدة هذا الخطر بمقدار نقص مصادر المياه من آبار وأنهار ومياه جوفية واستغلالها دون حكامة، مما يؤثر على قدرة تلبية حاجيات السكان من الماء.

وتُضاعف ندرة المياه من التكلفة الإجمالية للتنمية بسبب الجفاف وسوء التغذية والأمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد والشلل ومشكلات بيئية لا حصر لها. وعليه فإن تحسين إدارة الموارد المائية وتوفير إمكانية الحصول على مياه صالحة للشرب غير باهظة التكلفة وإيجاد مرافق صحية للجميع أمر مُلح للقضاء على الفقر وبناء مجتمعات سليمة صحيّا.

ولا شك أن الحفاظ على الماء أهم من توليد طاقة واستصلاح أرض، حيث يشهد الطلب على الموارد المائية ارتفاعا مذهلا في جميع القطاعات الرئيسية، مما يجعل الأمن الغذائي والصحي يمرّ أولا عبر بوابة الأمن المائي.

أزمة مياه
طبقا للتقديرات الإحصائية الأخيرة لمنظمة الأمم المتحدة، لا يحصل 783 مليون شخص على مياه نقيّة ويفتقر 2.1 مليار شخص إلى خدمات مائية صالحة، فيما يعاني أكثر من 4.5 مليار من غياب شبه كلّي لخدمات المرافق الصحية ومجاريها.

وتكمن الخطورة في نقص موارد المياه العذبة التي تعد الموارد الجوفية والسطحية أحد أهم مصادرها، وهي في أغلبها مستودعات مياه غير متجددة، بسبب نقص سقوط الأمطار والضغوط الكبيرة على موارد المياه المتاحة.

والواقع مع اقتراب عام 2025 بات الوضع المائي العربي على طرفي معادلة نقيضة، فمن ناحية هناك نقص في المياه العذبة وتراجع في منسوب المياه الجوفية وقلة التساقطات المطرية وهدر كبير يتبعه تصحر في مناطق واسعة، ومن ناحية أخرى هناك ارتفاع كبير في معدلات استهلاك الماء تفرضه حاجيات متزايدة في النمو السكاني والتحضر المدني ومستلزمات توفير الأكل والشرب والنظافة والتصريف، مما يفسر التفاوت الفعلي بين العرض والطلب الحاليين.

ونتيجة للاستهلاك المتزايد، انحدر نصيب الفرد في الوطن العربي من المياه ومن المتوقع أن يصل إلى 296 مترا مكعبا في عام 2025 بينما يفرض الحد الأدنى توفير 1000 متر مكعب لتوفير الغذاء والشرب والنظافة.

مصر والسودان سيواجهان أزمة مائية مستقبلا بسبب نقص تدفق المياه ومحدوديتها وحاجة دول الحوض إلى كميات إضافية لتأمين احتياجاتها من الغذاء والطاقة

ومن الضروري الفصل بين مفهومي “الفقر المائي” و”العجز المائي”، فالأردن مثلا فقير مائيا، لكن العراق غني بالموارد المائية، بيد أنه أصبح عاجزا مائيا حاليا بسبب سوء التدبير والاستخدام والاستهلاك المفرط، بمعنى عدم إعطاء الأولوية الكبرى للمشاريع التي تحقق أكبر عائد بأقل كمية مياه مستعملة، مما أدى إلى شح في مياه الشرب في بعض مناطق الجنوب وتصحر العديد من الأراضي وموت النخيل العراقي العريق.

وتنذر هذه المعطيات بأن 20 دولة عربية من مجموع 22 دولة هي تحت عتبة الفقر المائي، وأن ندرة المياه العذبة بالنسبة إلى حاجة الفرد في المنطقة العربية ستتزايد بسبب النمو السكاني وعوامل تغيّر المناخ.

ومن المتوقع أن تتفاقم التحديات المتمثلة في ضمان الوصول إلى خدمات المياه للجميع في ظل ظروف ندرة المياه وشحها وقلتها في مناطق ضعيفة البنية التحتية وتقل فيها إمدادات المياه الصالحة للشرب وغياب مرافق الصرف الصحي الدائمة في ضواحي المدن والأرياف.

وقد بلغ عدد المحرومين من خدمات مياه الصالحة للشرب النقية نحو 63 مليون نسمة، وعدد المحرومين من خدمات الصرف الصحي نحو 79 مليون نسمة وفق آخر تقرير للمجلس العربي للمياه.

حروب ماء مقبلة

الواقع أن البلدان العربية بذلت جهودا كبيرة في مجال توفير الماء لمواطنيها. وسبق أن أشار آخر تقرير للمجلس العربي للمياه إلى أن الموارد المائية غير التقليدية وصلت إلى حوالي 74 مليار متر مكعب في العام، وتشمل حوالي 7 مليارات متر مكعب من المياه المحلاة، و18 مليار متر مكعب من الصرف المنزلي، و6.7 مليار متر مكعب من الصرف الصناعي، و28 مليار متر مكعب من مياه الصرف الزراعي، وحوالي 7.5 مليار متر مكعب من المياه الجوفية المعاد استخدامها، و5.7 مليار متر مكعب من المياه الجوفية شبه المالحة.

فضلا عن ذلك تقوم بلدان الخليج العربي بتحلية مياه البحر لتلبية الطلب على المياه. فأكثر من 75 بالمئة من مياه البحر المحلاة في العالم موجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، 70 بالمئة منها في بلدان مجلس التعاون الخليجي (السعودية والكويت وقطر والبحرين والإمارات) و6 بالمئة في ليبيا والجزائر.

تصل كمية الموارد المائية المشتركة بين بلدان عربية وبلدان غير عربية إلى 174 مليار متر مكعب، وهو رقم له أهمية على المستوى الجيوسياسي بوصفه تحديا ورهانا كبيرا إذا فكّرت دول المنبع في أن تستخدم هذه الورقة للضغط السياسي، وهو ما يفرض أن تتشارك الدول العربية في تهيئة تصورات مستقبلية بخصوص المياه الجوفية العابرة للحدود في ما بينها أولا، حيث تشترك الجزائر وتونس وليبيا في خزان المياه الجوفية.

وبالمثل، تشترك معظم بلدان الجزيرة العربية في مياه نظام طبقات بالوجين الممتدة من الشمال إلى نهاية جنوب شبه الجزيرة، وتشترك بلدان السودان وتشاد ومصر وليبيا في خزان الحدر الرملي النوبي، وحوض نهر اليرموك المشترك بين الأردن وسوريا، حيث إمكانية التعاون متوفرة إذا توفرت الإرادة السياسية.

لكن علينا التذكير أيضا بوجود معضلة حقيقية أخرى تتجلى في وجود مصادر منابع المياه العربية في دول أخرى مثل مناطق نهر النيل، ونهري دجلة والفرات، ونهر الأردن مصدر المياه الرئيسي للأردن وفلسطين وإسرائيل، وهذه المناطق تشهد توترات سياسية منذ وقت طويل بسبب سيطرة إسرائيل على الخزانات الجوفية الضخمة المعروفة بخزان الجبل وبئر الجبل في الضفة الغربية، وحوض نهر الأردن الأعلى الذي ينبع من لبنان وسوريا.

أما بخصوص الأنهار الدولية والأحواض والخزانات الجوفية المشتركة والتغيرات الجغرافية الحاصلة، مثل انفصال جنوب السودان وأنهاره، كما بناء سد النهضة في إثيوبيا، يتضح أن ذلك له آثار وخيمة في دولتي المصب على المدى المتوسط والبعيد، ويؤثر سلبا في حصة المياه المصرية والسودانية.

وستواجه كل من مصر والسودان أزمة مائية مستقبلا بسبب نقص تدفق المياه ومحدوديتها وحاجة دول الحوض إلى كميات إضافية لتأمين احتياجاتها من الغذاء والطاقة، ما قد يؤدي إلى توتر العلاقة في المنطقة، ويجعل الموضوع شائكا بين شركاء النيل، لاسيما أن إثيوبيا تمتنع لحد الآن على الإفصاح عن حقيقة السدود الثلاثة الإضافية.

نتيجة لنقاط الضعف في الموارد المائية العربية التي ازدادت وطأة بفعل التغيّرات المناخية من جفاف وتصحر، فضلا عن الاستغلال المفرط لموارد المياه السطحية والمياه الجوفية -المتجددة وغير المتجددة-، ثم تداعيات انخفاض خصوبة التربة بسبب بناء السدود التي تحجز الرواسب الغنية بالمغذيات وتهدد التنوع الحيوي، أصبحت الكثير من الأنهار بعد السدود محرومة منها، وتآكلت قيعانها، وانخفض مستواها.

كما تفرض بدائل تحلية المياه تكلفة مرتفعة ماليا واستهلاكا كبيرا للطاقة، حيث تخطط الدول العربية إلى زيادة قدرة تحلية المياه إلى 86 مليون متر مكعب بحلول عام 2025 بتقنية التناضح العكسي المتقدمة، غير أنها إن قللت من الضغط على الموارد المائية التقليدية، تبقى لها أضرار ملوثة ومهددة للحياة البحرية ونظمها الإيكولوجية.

تجارة المياه الافتراضية
يمكن أن يؤدي استيراد المياه الافتراضية إلى تخفيف الضغط على الموارد المائية التقليدية، وأن يخفف من حدة الصراع الجيوسياسي على المياه مع الدول الحدودية في حالة مصر والعراق وسوريا والأردن وليبيا.

وتحتوي المياه الافتراضية على مكونات أساسية، هي المياه الخضراء، والزرقاء، والرمادية اللون ويمكن إضافة المياه السوداء التي يتم استخدامها في مجاري الصرف الصحي، بحيث تتجلى الأولى في رطوبة التربة بفعل الترسّب على إثر التبخر في الدورة الهيدرولوجية، وتعني تسرب جزء من مياه الأمطار في التربة، وهي تستخدم عبر عملية الرشح كما هو حال التربة الطينية في دلتا النيل، بحيث مع استمرار الرشح تزداد نسبة الرطوبة في الطبقة العلوية من التربة لتستفيد منه النباتات في نموها.

أما المياه الزرقاء، فالمقصود بها مياه الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية والثلوج، بينما تشمل المياه الرمادية المياه المستعملة في الحياة اليومية أو الملوثة بالأسمدة والمبيدات. وبالتالي، يمكن تعريف المياه الافتراضية بكمية المياه المستعملة إنتاجا واستهلاكا في أي إنتاج زراعي أو تجاري أو صناعي. ومن ثم يتم تصدير واستيراد المياه الافتراضية من خلال هذه المنتجات الاستهلاكية.

مفاد تشجيع تجارة المياه الافتراضية أن غالبية البلدان العربية لا تستطيع تحقيق اكتفاء غذائي بسبب نقص القدرة الزراعية فيها وقلة الموارد المائية. غير أن الأمن الغذائي العربي يمكن أن يتحقّق من خلال التكامل الزراعي الإقليمي الذي يجمع الميزات النسبية للبلدان العربية، بالإضافة إلى الاستثمارات في الدول التي تتمتع بموارد مائية مهمّة مثل ما تقوم به الإمارات العربية المتحدة والسعودية والكويت في السودان وإثيوبيا وإريتريا، أو كما يفعل المغرب في الغابون في المجال الزراعي، فهذا البلد مثلا يحتل المرتبة الأولى في القارة السمراء بمعدل 321 ألف متر مكعب للفرد بفضل البحيرات الكبرى وقلة السكان.

ويمكن للدول التي تعاني من الشح المائي أن تقلل من الزراعة التي تنهك قدراتها المائية باستيرادها من الدول ذات الوفرة المائية أو أن تساهم في إنتاجها في عين المكان لتغذية سكانها. وبهذه الطريقة تستطيع الدول التي تعاني من ندرة المياه أيضا أن تقوم باستيراد السلع المنخفضة نسبيا في محتوى المياه الافتراضية لتعظيم قيمة المياه المحدودة التي لديها، وبذلك تحقق الدولة المستوردة وفرة في المياه الحقيقية لتخفيف الضغط حول مواردها المائية، وتوفّر ماءها من أجل استعماله في إنتاجية تحقق قيمة مضافة أعلى، وليس هدره في قيمة مضافة أدنى. وذلك بحساب الفرق بين الصادرات والواردات في المياه الافتراضية.

ولعل تطبيق مفهوم البصمة المائية يتيح بسهولة معرفة حجم المياه اللازمة لإنتاج السلع، فإنتاج حزمة ورق واحدة مكونة من 100 ورقة، تستهلك أكثر من 1800 لتر من الماء، فيما يتطلب إنتاج كلغ واحد من اللحم توفير 16 مترا مكعبا من الماء، ويحتاج كلغ واحد من الأرز إلى 6 أمتار مكعب من الماء، فضلا عن أن زراعة كلغ واحد من القمح يستهلك 5.1 متر مكعب من الماء.

وعليه، وما يمكن استخلاصه هو أن الوعي بقضايا الماء قضية حاسمة ومحورية ومصيرية في تحقيق الاستقلال الغذائي والصحي في البلدان العربية، بمعنى أنه إذا أخذنا مجموع الإمكانيات الهيدروليكية في الشرق الأوسط، فإننا نجد رقما مهمّا من 2787 مترا مكعبا وهو رقمي يفوق ما حددته منظمة الصحة العالمية من أجل تنمية مستديمة. ولكن ذلك لن يتحقق دون التعاون عربيا لتوفير الموارد المائية في المنطقة واعتبار تحدياتها ضرورة وجودية تفرض تكاتف الجميع.

العرب