في يوم الجمعة السادس من الشهر الجاري ديسمبر/كانون الأول قُتل ما لا يقل عن 23 متظاهرا، كما أصيب العشرات بجروح، عندما فتح مسلحون النار على مرآب للسيارات في شارع الرشيد في بغداد، اتخذه المتظاهرون مقرا لهم، منذ فترة من الزمن.
يأتي الهجوم بعدما أعرب المتظاهرون عن قلقهم حيال أعمال عنف وقعت في ساحة التظاهرات الرئيسية في بغداد، قبل يوم واحد من الحادث الأخير، أثر نزول مؤيدين لفصائل موالية لإيران إلى ساحة التحرير في استعراض قوة. بداية الشهر الجاري دخلت الانتفاضة العراقية شهرها الثالث. كانت عناصر القوة لديها كثيرة ومتميزة وخطيرة في الوقت نفسه، ما منحها إمكانية التهديد السياسي لمصالح قوى محلية وإقليمية.
أول عناصر القوة هذه، أنها حراك شعبي انبثق من واقع جغرافي واجتماعي، لطالما اعتبرته الطبقة السياسية المحلية الحاكمة أنه الحاضنة الرئيسية لها. وطوال ستة عشر عاما كانت هذه النخبة السياسية تصر على أن شرعيتها مستمدة من هذا الواقع المجتمعي. وبناء عليه كانت تفرض شروطها ومنهجها وسلوكها السياسي على جميع العراقيين. وعندما ينتفض هذا المجتمع ضد الطبقة التي تحتكر تمثيله، فإنه يشكل تهديدا كبيرا وجديا لمصالح ومستقبل هذه النخبة السياسية.
ثانيا، لقد نجحت الانتفاضة في بعث الروح الوطنية من جديد، بعد أن كانت الفكرة المدنية المواطنية هامشية، أمام الهويات الفرعية الأخرى كالطائفية والإثنية والمناطقية. وبما أن المنهج السياسي للطبقة الحاكمة يقوم على العصبيات والولاءات الأخرى، فإن الانتفاضة تكون قد جففت بركة التفكير التي تتنفس منها الأحزاب الحاكمة.
ثالثا، إعلان الشباب المحتجين أن أولويتهم هي التفتيش عن وطن ودولة، واعتبروا أن من واجبهم إيجاده بعيدا عن الحسابات الخارجية، فكانت شعاراتهم واضحة برفض الوجود الإيراني، وحتى الوجود الدبلوماسي منه قد تعرض للتدمير والحرق مرات عديدة في البصرة وكربلاء والنجف. ما شكل تهديدا استراتيجيا واضحا للمشروع الإيراني، خاصة أن إيران كانت تعتبر الطبقة السياسية العراقية هي ذراعها الأهم في المحور وقاعدتها الاستثمارية الكبرى، بالإضافة إلى الاستثمار في الانتماء الطائفي للنسيج الاجتماعي للمتظاهرين. عليه فإن الانتفاضة العراقية تشكل حركة شعبية مقلقة لإيران، وتهديدا جديا لمصالحها في العراق والمنطقة.
رابعا، نجاح الانتفاضة في العبور إلى كل الطبقات والانتماءات، وجعل حقوق الوطن وتحقيق إنسانية الإنسان والديمقراطية، محركات حقيقية وفاعلة للعراقيين جميعا. وهذا أفقد النظام السلطوي العراقي والإيراني القدرة على التصدي وضرب تطلعات الناس.
خامسا، نجاح الانتفاضة الشعبية بإسقاط رئيس الوزراء العراقي، على الرغم من النصائح الايرانية بعدم الإقدام على هذه الخطوة. هذا السقوط عزز ثقة المتظاهرين بأنفسهم، ثم قدمهم إلى الرأي العام بأنهم قادرون على الفعل.
سادسا، كانت الإحاطة التي قدمتها ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة الخاصة بالعراق أمام مجلس الأمن في الثالث من الشهر الجاري، عنصر قوة كبيرة يضاف إلى عناصر قوة الحراك. كما كانت في الوقت عينه هزيمة منكرة للسلطات العراقية والايرانية أيضا، حينما أكدت بأن المتظاهرين سلميون وبعيدون عن أية مصالح حزبية وأجنبية، لكنهم مع ذلك يدفعون أثمانا باهظة بسبب القمع الحكومي.
قد تكون القوة العارية التي تمتلكها السلطات قادرة على الإيذاء، لكنها غير قادرة على إطفاء الحراكات الشعبية المنطلقة
أمام هذا المشهد الكبير لا يمكن أن تقف طهران مكتوفة الأيدي، وتنظر كيف أن مشروعها الاستراتيجي يتهاوى أمامها في لبنان والعراق. لذا فالمؤشرات المعلنة التي حدثت على أرض الواقع، يمكن أن تعكس لنا صورة التحرك الإيراني عند ربطها بعضها مع بعض. باكورة هذا التحرك كانت إعلان المرشد الاعلى الايراني بأن الانتفاضة العراقية مؤامرة من الاعداء، وأن المتظاهرين عملاء لاسرائيل والولايات المتحدة. ولأن الرجل يمارس الدورين السياسي والديني، فإن وصفه هذا يعتبر فتوى دينية وسياسية في آن معا، ما يلزم أتباعه ومقلديه من الاحزاب والميليشيات الطائفية، بالتحرك ضد المنتفضين وفق هذا الوصف.
كانت الخطوة الثانية هي ممارسة ضغط كبير من صانع القرار الإيراني على رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي بعدم تقديم استقالته، على اعتبار أن ذلك سيعطي زخما ثوريا للمتظاهرين، يدفعهم لرفع سقف المطاليب الشعبية. وقد لاحظنا كيف أن خطاب هذا الاخير قد تغير، وأصبح يصر على البقاء في المنصب، قبل اضطراره إلى الاستقالة في ما بعد. كما شهدت هذه الفترة زيارات متعددة علنية وسرية لقيادات عسكرية إيرانية، خاصة قائد الحرس الثوري الايراني الجنرال قاسم سليماني، وقيادات عسكرية من حزب الله اللبناني، من بينهم المدعو محمد كوثراني. كما حدثت زيارات لقيادات حزبية وميليشياويه عراقية إلى طهران واللقاء بالمرشد الأعلى في الحادي والعشرين من الشهر المنصرم.
يبدو أن هذه التحركات أذنت بالشروع باتخاذ قرار مواجهة المنتفضين. كان التمهيد لبداياته حالات القتل والاختطاف والاعتقالات التي تعرض لها العديد من ناشطي التظاهرات في بغداد والمحافظات. وربما كانت المرحلة الأولى منه هو ما حدث في يوم الخميس الماضي في الثالث من الشهر الجاري، حيث تم الدفع ببعض العناصر والاتباع والمنتفعين من فصائل مؤيده لطهران، في مسيرات مزيفة ومدفوعة التكاليف، كانت عبارة عن فريق آخر مختلف تماما عما موجود في ساحات الاعتصامات. وقد تعرض بعض الشباب المنتفضين إلى طعنات بالسلاح الابيض غيلة وغدرا من قبل هؤلاء. ثم جاءت المرحلة الثانية في اليوم التالي تحديدا، بافتعال صدام مسلح في مرآب للسيارات، كان المنتفضون قد اتخذوه مقرا لهم ليس بعيدا عن ساحة التحرير. وقد قتل في هذا الحادث ثلاثة وعشرون شابا وجرح العشرات منهم. هذا الحادث يشير إلى نية بتشكيل ما يسمى توازن الرعب. فالرعب السياسي الذي أحدثته الانتفاضة العراقية يدفع السلطات في العراق وإيران إلى مواجهته بالرعب المسلح، ثم الدفع بصدام مسلح أكبر يكون مبررا لإعلان حالة الطوارئ في البلاد ثم فض التظاهرات.
إن الانتفاضة في العراق ولبنان أيضا، باتت تشكل تهديدا وجوديا للفكر الطائفي المحلي في البلدين. كما أصبحت قلقا استراتيجيا للنظام الايراني السياسي والديني الذي يتزعم هذا المحور. قد تكون القوة العارية التي تمتلكها السلطات قادرة على الإيذاء، لكنها غير قادرة على إطفاء الحراكات الشعبية المنطلقة، في ظل وجود هوية وطنية موحدة، والمتجهة نحو استعادة الوطن وتشكيل الدولة. كما أن وصول صوت المنتفضين إلى العالم، كما حدث في الإحاطة الاخيرة لمجلس الأمن الدولي، قد تشكل ضغطا على آلة القمع الحكومي التي باتت تحت النظر.
القدس العربي