لم يكن للشعب الفلسطيني حتى عهد قريب أي أدوات حقيقية يواجه بها السيل الجارف من الانتهاكات التي يتعرض لها ولا يزال من الاحتلال الإسرائيلي، والتي تراكمت عبر سنوات الاحتلال الطويلة، ولم يجد الاحتلال أي صد أو رادع لجرائمه المتتالية واستعلائه على القانون الدولي وانتهاكه للأعراف الدولية، والتي تراوحت بين جريمة الاستيطان ومصادرة الأراضي وجدار الفصل العنصري، إلى القتل الجماعي واستهداف المدنيين في حروب إسرائيل على قطاع غزة، وليس انتهاءً بعمليات الإعدام الميدانية الممنهجة في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وحتى السلطة الوطنية الفلسطينية التي تأسست بعد عام 1993 ورغم بعض الصلاحيات السيادية المحدودة التي تحصلت عليها من اتفاق أوسلو لم يكن بمقدورها ممارسة أي أدوار ذات مغزى أمام المؤسسات الدولية ذات العلاقة بالمسائل الحقوقية والجرائم ضد الإنسانية، على أساس أنها ليست كياناً سياسياً مكتمل المتطلبات القانونية والشروط السياسية، ومن ناحية أخرى وحتى اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في روما في تموز/ يوليو 1998، المؤسس للمحكمة وواضع دستورها الأساسي وإطارها القانوني، فإن المؤسسات الدولية الوازنة كمجلس الأمن والجمعية العامة ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ومؤسسات أممية أخرى ذات صبغة قانونية، لم تكن ذات اختصاص أو صلاحيات، لمباشرة تحقيقات جنائية تتعلق بجرائم حرب وإبادة جماعية وانتهاكات صارخة للقانون الانساني، عوضاً عن توفر صلاحيات إجرائية تمنحها أدوات تنفيذية للاعتقال والسجن والإدانة وفرض عقوبات.
شكل عام 2002 محطة فارقة في تحقيق العدالة الإنسانية، وللشعب الفلسطيني بالتحديد، مع دخول اتفاق روما لعام 1998 حيز التنفيذ وتأسيس محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بتوقيع ستين دولة على الاتفاق، والذي على أساسه تشكل إطار عام يسمح بموجبه للسلطة الفلسطينية كجهة قانونية لها من الكيانية السياسية والصلاحيات السيادية بمباشرة إجراءات الانضمام للمحكمة والشروع في تحقيق جنائي ضد جرائم إسرائيل في الأراضي المحتلة، بالاستناد إلى نص النظام الأساسي للمحكمة في المادة (4) الذي يشير إلى أن المحكمة تتمتع بشخصية قانونية دولية، وبالتفويض القانوني اللازم لممارسة مهامها وتحقيق أهدافها، ويمكن للمحكمة أن تمارس اختصاصها وسلطتها على أراضي الدول الأعضاء، وعلى أراضي دولة أخرى بموجب اتفاقية خاصة تعقدها مع الدول المعنية.
الخطوة الأولى بالنسبة للسلطة الفلسطينية هو شمل مناطق السلطة والخاضعة للاحتلال الصهيوني بموجب القانون الدولي ضمن صلاحيات الجنائية الدولية، وهو ما سارعت به السلطة من خلال توقيع ممثلي حكومة فلسطين إعلان المادة 12 (3) من ميثاق روما في 21 كانون الثاني/ يناير 2009، والذي يحيل الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، أي بعد الحرب العدوانية على قطاع غزة التي قتل فيها حوالي 1400 فلسطيني منهم أكثر من 1170 مدنياً، ولم يكن للسلطة الفلسطينية الكثير لتفعله للرد على جرائم الجيش الإسرائيلي خلال أيام الحرب مع عجز مجلس الأمن الدولي عن وقف العدوان، وغياب أي مؤسسات دولية يمكن اللجوء إليها لمعاقبة إسرائيل.
غير أنه وبعد ثلاث سنوات من التوقيع على المادة، وتلكؤ واضح من المدعي العام للمحكمة في الرد على السلطة الفلسطينية، أرسل لويس مورينو أوكامبو مذكرة يرفض فيها طلب انضمام فلسطين إلى المحكمة، بحجة أن الطلب لم يكن صحيحاً في جانبه الإجرائي، وهو أن السلطة الفلسطينية لا تمثل دولة ذات سيادة مستوفية للشروط القانونية المتعارف عليها، كما تتطلب المادة 12 (3) من ميثاق روما المؤسس للنظام الأساسي الجنائية الدولية، وعليه سارعت دولة فلسطين عبر مجموعة من الدول العربية والصديقة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقديم مشروع قرار في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 لترفيع مكانة فلسطين إلى دولة مراقب في الأمم المتحدة، وعليه نال مشروع القرار تأييد 138 دولة، ومعارضة 6 دول، وعليه أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار 67\19 والذي يقضي بمنح فلسطين وضع دولة مراقب في الأمم المتحدة غير عضو، وعليه تجاوزت فلسطين شرط الدولة لنيل عضوية المحكمة.
وبعد العدوان الإسرائيلي على غزة في 2014 والذي استمر 52 يوماً ارتكب فيه الجيش الإسرائيلي جرائم واسعة وانتهاكات خطيرة أكثر مما حدث في الحرب العدوانية التي سبقتها بسنوات، حسب تقارير مؤسسات حقوقية دولية، واستطاعت إسرائيل بدعم من الإدارة الأميركية وصمت غربي من الإفلات مرة أخرى من العقاب، تحركت دولة فلسطين بممثليها من السلطة الفلسطينية للشروع في إجراءات تمهد الطريق لمحكمة الجنايات لإجراء تحقيق في جرائم إسرائيل في حرب عام 2014، وأودعت إعلاناً في كانون الأول/ ديسمبر 2014 منحت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية اختصاصاً قضائياً رجعياً، يبدأ في 14 حزيران/ يونيو 2014، لإفساح المجال أمام المدعية العامة للنظر في الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة عام 2014، ثم أودعت فلسطين صكّ الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية كدولة في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2015، دخل حيز التنفيذ في الأول من نيسان/ إبريل 2015، لتكون بذلك دولة فلسطين العضو 123 في المحكمة.
وعلى إثره صدر مرسوم رئاسي في 7 شباط / فبراير 2015، بتشكيل اللجنة الوطنية العليا التي تتولى مسؤولية التواصل والمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية، وتشمل المهام، وفقًا للمادة الثانية من المرسوم، إعداد لجنة فنية تديرها وزارة الخارجية الفلسطينية، الوثائق والملفات الخاصة بجرائم إسرائيل، والتي ستحيلها دولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية، كما منح المرسوم اللجنة تحديد الأولويات، واختيار اللجان الفنية والقانونية المناسبة، وتحديد الجداول الزمنية، خاصة التقارير التي سترفع إلى المحكمة.
قدمت فلسطين عبر ممثلها وزير الخارجية رياض المالكي في آب/ أغسطس 2015 أربعة ملفات أساسية ذات صبغة قانونية تتضمن مخالفات جنائية خطيرة لا لبس فيها في حق الشعب الفلسطيني، ووفق قرارات سابقة تنسجم مع القانون الدولي، تليها مذكرات تكميلية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015:
– الاستيطان في الضفة الغربية والقدس: يستند الملف في بطلان أي إجراءات أدت إلى طرد الفلسطينيين من أراضيهم لصالح مشاريع الاستيطان إلى المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والمادة (85) من البروتوكول الإضافي الأول، والتي لا يجوز بموجبه لدولة الاحتلال أن ترحل جزءاً من المدنيين الفلسطينيين من أراضيهم عنوةً وتنقلهم إلى مناطق أخرى.
– حرب عام 2014 والتي قتل فيها أكثر من 2200 فلسطيني أغلبهم من المدنيين، بقائمة طويلة من المجازر والانتهاكات والتي وثقتها بمهنية وموضوعية مؤسسات حقوقية فلسطينية ودولية.
– المعتقلون الفلسطينيون: يشمل التعذيب، والحرمان من الحرية، والاعتقال التعسفي، والذي يخالف المادة (7/1/ه) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؛ الخاص بالسجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية، والمخالف أيضاً للمادة (76) من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحجز الأشخاص خارج البلد المحتل.
– ملف حرق منزل عائلة دوابشة: ففي 31 أيار/ مايو 2015 أحرق مستوطنون منزل العائلة في قرية دوما في مدينة نابلس الفلسطينية، والتي أدت لمقتل طفل يبلغ من العمر عاماً ونصف ووالديه.
اجتهدت السلطة الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان في تقديم الأدلة والبراهين؛ وهي كثيرة ومتنوعة، لإيجاد مسوغات متماسكة تتكئ على أرضية صلبة من المعلومات والحقائق والأدلة، مستحضرةً الأبعاد القانونية وبما ينسجم مع القانون الدولي، وعليه تحصلت المدعية العامة فاتو بنسودا على ما يزيد على 125 مراسلة وفق المادة 15 من ميثاق روما الخاص بالمحكمة، وحتى عام 2016 ووفق ما أعلنه مكتب المدعية العامة تم تشكيل قاعدة بيانات شاملة لأكثر من 3000 حادث تم الإبلاغ عنه، وسلسلة الجرائم التي ادعت السلطة أنها وقعت خلال حرب غزة 2014.
ورغم ضخامة وموثوقية البيانات والمعلومات التي وصلت إلى مكتب المدعية العامة والتي كانت كفيلة ببلورة أساس منطقي للمحكمة لاستكمال إجراءاتها والشروع في عملية تحقيق جنائية، إلا أن المحكمة بدت وكأنها تتلكأ في إصدار قرار بإطلاق التحقيق، وتتردد في حسم موقفها من مطالب دولة فلسطين بمباشرة التحقيق الجنائي في ملفات الانتهاكات في الأراضي المحتلة المقدمة لمكتب المدعي العام، وبعد حوالي خمس سنوات من عضوية فلسطين في الأمم المتحدة كعضو مراقب، وانضمامها فعلياً إلى محكمة الجنايات الدولية، أعلنت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2019 طلبها من الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية؛ وهي هيئة ذات اختصاص قضائي، إصدار حكم بشأن الولاية الإقليمية للأراضي الفلسطينية المحتلة، تمهيداً لفتح تحقيق جنائي في الجرائم الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، ويبدو أن المدعية العامة لديها هواجس حقيقية من الطرف المُدعى عليه وهو إسرائيل مسنودة بالولايات المتحدة من التشكيك في صلاحيات المحكمة الجغرافية، وعلى الولاية القانونية لممارسة المحكمة تحقيقاتها في الأراضي المحتلة، وهي بذلك ترغب في تصليب موقفها عند شروعها في التحقيق الجنائي بشكل فعلي، وسد كل الثغرات القانونية التي يمكن النفاذ منها إسرائيلياً، لمعرفتها المسبقة بقدرات إسرائيل القانونية وقدراتها على حشد الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الغربية لصالح موقفها.
ورغم ذلك فإن قرار المدعية العامة باستشارة الدائرة التمهيدية، يعني أن لها من الأدلة والبراهين الكافية حول انتهاكات وجرائم إسرائيل تم التحصل والنظر فيها طوال الخمس سنوات الماضية، ما يؤهلها لإطلاق تحقيق جنائي جدي، وكذلك وإذا تم تجاوز استشارة الدائرة التمهيدية بصلاحية الولاية الإقليمية للمحكمة على المناطق الفلسطينية المحتلة ومناطق السلطة الفلسطينية خلال 90 يوم تبدأ من 20 كانون الأول/ ديسمبر 2019 وتنتهي في 19 آذار/ مارس 2020، فإن دولة فلسطين قد حققت نقلة نوعية تجاه التعاطي مع إسرائيل، ومع إفلاتها المتكرر من العقاب عبر العقود الماضية، ومن تعاملها الفوقي مع القانون الدولي، وفي تحقيق شيء من العدالة المفقودة للشعب الفلسطيني، على اعتبار أن للمحكمة أدوات إجرائية لإنفاذ أحكامها، بعكس تقرير “بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة رسمياً”، أو لجنة غولدستون حول الحرب العدوانية عام 2008، الذي جاءت بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ولم تتبعه أي إجراءات حقيقية ضد إسرائيل، أو الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 2004 حول بطلان قانونية جدار الفصل العنصري الذي تقوم إسرائيل بإقامته، والتي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد طرحه للتصويت، ولكن دون أي إجراءات عملية كونه في النهاية رأياً استشارياً.
وتبقى المخاوف والشكوك تراود الفلسطينيين من شروع المحكمة في تحقيق جنائي فعلي ضد جرائم إسرائيل، ومن استمراره حتى آخر محطة بما يضمن جلب المسؤولين الإسرائيليين، سواء أكانوا عسكريين أم سياسيين، إلى ميدان العدالة، وإنفاذ العقوبات بحقهم، وذلك بحكم تجربتهم المريرة مع تحقيقات سابقة، ومن الإسناد والدعم اللذين يهرع بهما الأميركيون وكثير من الأوروبيين لنصرة إسرائيل بالتغطية على جرائمها ومساعدتها على الإفلات مع أي إجراءات قانونية أو عقوبات، ومن هذه المخاوف تدخل مجلس الأمن الدولي بمبادرة من الولايات المتحدة في إحدى مراحل التحقيق لوقفه، أو ممارسة ضغوط غربية هائلة على قضاة المحكمة لتجاوز إدانة إسرائيل، والتركيز على المقاومة الفلسطينية وكأنها هي المعنية بالتحقيق أو على الأقل مساواتها بجرائم الاحتلال.
أسامة يوسف
العربي الجديد