في الساعات المبكرة من يوم الثالث عشر من آذار/مارس، شنت الطائرات الأمريكية والبريطانية عدّة ضربات جوّية على مواقع تخزين الصواريخ التابعة للجماعة الميليشياوية العراقية «كتائب حزب الله» الموالية لإيران، والتي تعرّضت أيضاً لضربات جوّية لم يتبنّاها أي طرف في سوريا في اليوم السابق. وحتى يوم الأربعاء، عندما قتلَ هجومٌ صاروخيٌّ جنديَين أمريكيَين وجندي بريطاني على قاعدة مترامية الأطراف شمال بغداد، لم يكن هناك الكثير من الضجيج من جانب طهران منذ انتقامها في أوائل كانون الثاني/يناير في أعقاب قيام القوات الأمريكية بقتل قاسم سليماني. إلّا أن ذلك الواقع قد تغيّر بعد هجوم الثالث عشر من آذار/مارس، الذي تمّ التخطيط له بدقّة بالغة، ومن الواضح أنه لم يكن عملاً نفّذته البقايا المتداعية لتنظيم «الدولة الإسلامية». فقد اقتربت شاحنة تحمل صفين من أنابيب إطلاق الصواريخ مثبتة بشكلٍ مخفي على المساحة المسطّحة للشاحنة من القاعدة من دون كشفها وأطلقت الصواريخ في رشقة واحدة مفاجئة.
كشخصٍ تاه عندما كان يسير حول متاهة الحواجز الخرسانية التي تتكون منها قاعدة “معسكر التاجي” الممتدّة على مساحة 15 ميل مربع، يمكنني أن أشهد على الدقة البالغة للضربة. فمساحة هذا المعسكر هائلة، وتم تنفيذ الضربة في الوقت المناسب والمكان المناسب، وربما تم توجيهها عبر طائرة بدون طيّار أو عميل بشري.
وفي اليوم التالي، أشادت «كتائب حزب الله» – الميليشيا الشيعية العراقية الأقرب إلى إيران – بالهجوم كأحد أعمال “المقاومة” الموالية للجمهورية الإسلامية ضد “الاحتلال” الأمريكي، مما يشكّل علامةً مؤكدة على أن الميليشيات الموالية لإيران كانت وراء الضربة والنسخة الميليشياوية الشيعية من “التفاخر المتواضع”. وبحلول تلك المرحلة، كان الطيران الأمريكي أو الإسرائيلي قد قام بالرد على «كتائب حزب الله» والميليشيات الشيعية الأخرى بعمليات قصف، وإن كان ذلك مجرد عبر الحدود في سوريا في وقتٍ متأخّر من يوم الأربعاء، مما أسفر عن مقتل حوالي أربعة وعشرين مقاتلاً وإصابة عددٍ أكبر بكثير. وذكّرت الضربات، والجولة اللاحقة من الصواريخ التي أُطلقت في وقتٍ مبكرٍ جدّاً من صباح يوم الجمعة، بالهجمات الانتقامية الأمريكية في أواخر كانون الأول/ديسمبر على «كتائب حزب الله» بعد أن تسببت الجماعة الميليشياوية بحالة الموت الأمريكية الأخيرة في العراق في هجومٍ صاروخي في 27 كانون الأول/ ديسمبر.
قد لا تشكّل الضربات التي شُنّت صباح يوم الجمعة خاتمة الجولة الجديدة من العين بالعين والتي من المحتمل أن تثير صراعاً أوسع نطاقاً. وتلجأ إيران إلى التصعيد عبر ميليشياتها العراقية لأنها تريد زيادة الضغط لطرد القوات الأمريكية من العراق وتهديد القادة العراقيين قبل عملية الاختيار التي ستجري في الأسبوع الثالث من آذار/مارس لاستبدال رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبد المهدي.
وكما قال وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر يوم الخميس: “لن يُسمح لكم بإطلاق النار على قواعدنا وقتل الأمريكيين وجرحهم من دون أن تلقوا عقابكم”. لكن كيف يمكن تثبيت قوة الردع بسرعة لإنهاء جولة الهجمات ومنع إلحاق المزيد من الخسائر في الأرواح الأمريكية؟
بلد واحد، عدوّان
يأتي مقتل العنصرَين الأمريكيَين – عسكري واحد ومتعاقد واحد – في “معسكر التاجي” بعد أيامٍ من مقتل أفراد من القوات الخاصة (“المارينز”) من مشاة البحرية الأمريكية في 8 أذار/مارس في معركة بالأسلحة النارية مع تنظيم «الدولة الإسلامية» في شمال العراق. ويشدّد الحدثان على مدى تعقيد ما يحاول الجيش الأمريكي القيام به في عراق اليوم.
ولا تزال مهمة “قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب/»عملية الحل المتأصل«” (أو “التحالف”) تتمثل في هزيمة آخر بقايا لتنظيم «الدولة الإسلامية». وفي الأسابيع الأخيرة، كثف التحالف غارات قواته الخاصة إلى جانب قوات المغاوير العراقية، فحقق نجاحات ملحوظة ضدّ أهداف قيادية من تنظيم «الدولة الإسلامية».
وعندما تبدأ الولايات المتحدة بالتحرك، بقيامها بشن غارات جديدة اعتماداً على [استرجاع] البيانات من أجهزة الحواسيب المحمولة والهواتف التي تمّ وضع اليد عليها في كل غارة سابقة، فعندئذ يواجه الإرهابيون العدو الأكثر صرامة في العالم. إلّا أنّ تعزيز الفعالية يأتي على حساب مخاطر إضافية، كما يتّضح من وفيات 8 أذار/مارس في المعركة مع تنظيم «الدولة الإسلامية».
وما يزيد الأمور تعقيداً هو أنّ الميليشيات المدعومة من إيران مثل «كتائب حزب الله» تسعى إلى الضغط لإخراج التحالف الذي تدعمه الولايات المتحدة من العراق بأي وسيلة ضرورية، وبِصرف النظر عن مساهمة التحالف في النضال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد سعت الميليشيات مثل «كتائب حزب الله» إلى التخلص من القوات الدولية قبل وقتٍ طويلٍ من قتلها أحد العناصر الأمريكية في 27 كانون الأول/ ديسمبر، قبل أن تتلقّى بنفسها ضربةً في 29 كانون الأول/ ديسمبر، وقبل قيام الولايات المتحدة بقتل اثنَين من أربابها، هما اللواء الإيراني قاسم سليماني وزعيم إحدى الميليشيات العراقية أبو مهدي المهندس، في 3 كانون الثاني/ يناير في غارة بطائرة بدون طيّار في بغداد.
ما الذي تريده الميليشيات الإيرانية
تُضاعِف الميليشيات حالياً جهودها، التي تشمل إصدار تحذيرات للمسؤولين والجنود العراقيين لإبعاد أنفسهم عن التحالف (وهو ما لم يفعلوه). ففي الأشهر الأخيرة، هدّدت «كتائب حزب الله» نواب عراقيين بأن عليهم التصويت من أجل إخراج القوات الأمريكية (وقد قاوم عددٌ كافٍ منهم هذا النداء لمنع اكتمال النصاب القانوني أثناء عملية التصويت)، وهدّدت الرئيس العراقي برهم صالح إذا ما التقى بالرئيس دونالد ترامب في “المنتدى الاقتصادي العالمي” (لكنه التقى بترامب على أي حال).
وتُصدر «كتائب حزب الله» حالياً أيضاً تصريحات تعترض فيها على بعض المرشّحين لمنصب رئيس الوزراء الجديد الذي سيتم تعيينه قريباً في العراق، وتقترح هي نفسها المرشح الذي يجب اختياره (رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي)، وتُشير صراحةً إلى كيفية وجوب اتخاذ كبار القادة الدينيين في البلاد الحكم في الأمر. ويشكّل كل ذلك أرضيةً غير مسبوقة في العراق، لا سيّما الانفتاح الذي تتّسم به التهديدات، على غرار الانتخابات الأخيرة في إيران حيث منع النظام ترشيح أكثر من 7000 شخص للبرلمان وألغى صلاحية ثلث النواب السابقين في سعيهم لإعادة انتخابهم.
استعادة الردع
من الواضح أنّ الولايات المتحدة لم [تنجح] حتى الآن في ردع الميليشيات عن قتل الأمريكيين، والنتيجة هي أنّ القوات الأمريكية في العراق ليست محمية من قبل الحكومة العراقية أو الحكومة الأمريكية في النهاية. وهذا الوضع غير مستدام. فما الذي يمكن أن يتغيّر؟
الانسحاب الأمريكي من العراق. إن أحد الخيارات المطروحة دائماً هو مغادرة القوات الأمريكية، وهو ما يريده كلّ من «الحرس الثوري» الإيراني و«كتائب حزب الله» وتنظيم «الدولة الإسلامية». ويشير السجل التاريخي إلى أن واشنطن قد نُدفَع لاحقاً إلى الدخول مجدداً إلى العراق، في ظلّ ظروفٍ أقل ملاءمة، وربما حتى لمحاربة عراق خاضع للسيطرة الإيرانية.
اتباع الطريق البطئ. الخيار الثاني هو إمكانية أن تلعب الولايات المتحدة اللعبة الخاصة بإيران وميليشياتها، وأن تقتل ببساطة عدداً أكبر بكثير من أعضاء هذه الميليشيات ضمن حملة قضاء وإقصاء مستمرة. ويندرج ذلك ضمن نطاق قدرات واشنطن وقد يؤدّي إلى تخفيض النفوذ الإيراني في العراق إلى حد كبير وطويل الأمد، لكن يبرز أيضاً خطر تحفيز المعاداة للولايات المتحدة – وإن كان ذلك غير مؤكد.
اتباع الطريق السريع. الخيار الأخير هو إمكانية أن تلعب الولايات المتحدة بطريقة أو بأخرى دور الضحية والجهة المسؤولة في هذه الأحداث المثيرة، وأن تجعل ردّها يقتصر على الضربات الفورية والمتناسبة، لا سيّما خارج العراق، للحد من خطر الردود القومية العراقية.
لقد شكّلت الضربات التي شُنّت في ليلة الثالث عشر من آذار/مارس على قواعد الصواريخ والقذائف التابعة لـ «كتائب حزب الله» محاولةً لاتباع الطريق السريع، إلا أنّ غياب الانفجارات الثانوية الكبيرة يشير إلى أنّ «كتائب حزب الله» قامت بإخلاء أسلحتها الثمينة قبل شن الضربة بوقت طويل. ويمكن للجهات الميليشياوية الوكيلة التابعة لإيران في العراق مقايضة المباني الفارغة أو حتى عشرات القتلى من جنود الصف التابعين لها، وأن تصرّح طيلة النهار وكلّ يوم عن الوفيّات الثلاث التي سجّلتها ضمن صفوف البريطانيين والأمريكيين. وهذه لعبة ستخسرها الولايات المتحدة.
ربما يكمن النهج الصحيح في مسار ما بين الطريق البطئ والطريق السريع، عبر شنّ هجمات سريعة جدّاً وحاسمة وغير معلنة ضدّ بعض كبار قادة الميليشيات العراقية من أجل دفع الآخرين إلى التفكير بجدّية كبيرة في مستقبلهم الشخصي. لكنّ الأهداف القيادية الرفيعة المستوى – التي تقدّرها إيران والميليشيات بشكل عام – غير متوافرة عموماً لضربها في اليوم الذي يلي مقتل الأمريكيين: فهي تخبئ أنفسها. على أعضاء الكونغرس الأمريكي والإدارة الأمريكية الجلوس والنقاش فيما بينهم للتوصل إلى اتفاق حول بعض القواعد الأساسية لاستخدام القوة العسكرية التي تسمح للجيش الأمريكي بفصل توقيت الضربات الرادعة، لكي تتمكّن الولايات المتحدة من ضرب الأهداف الصحيحة عندما تصبح متاحة، من أجل ردع هجمات الميليشيات، تلك الهجمات التي سيرتفع احتمال حصولها في حالاتٍ أخرى.
وفي موازاة ذلك، على الولايات المتحدة أن تشدد طريقة تفكيرها، وأن تجلب بهدوء أصول حماية القوة التي تحتاجها إلى العراق (أي صواريخ “باتريوت” ودفاعات قريبة ضد الصواريخ) دون مشاورات إضافية مع الحكومة العراقية التي قد [تفضل] بالأحرى اعتماد نهج يطلب “عدم السؤال وعدم الإخبار”. وأخيراً، يجب على الولايات المتحدة أن تسمح للميليشيات بالاستمرار في التجاوز، والاستمرار في الكشف عن نيّتها في أن تصبح الدكتاتوريات المستقبلية المحتملة الخاضعة لسيطرة إيران، بينما يواصل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة مساعدة العراق على هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». وهذه لعبة يمكن لواشنطن الفوز بها.
مايكل نايتس
معهد واشنطن