أعلن كير ستارمر في خطابه المرئي المسجل مسبقاً والذي بُثّ بعد انتخابه زعيماً لحزب العمال في نهاية الأسبوع الماضي، أنهم “كانوا في الأخير والآن يجب أن يكونوا في الأول”. كان يتحدث عن موظفي “خدمة الصحة الوطنية” (إن إتش إس) والعاملين في مجال الرعاية وخدمات الطوارئ وعمال النظافة والحمّالين، قائلاً إن هؤلاء “لم يُقدّروا حق قدرهم لفترة طويلة وتقاضوا أجوراً زهيدة”.
كان ذلك يشبه بشكل مذهل التعبير الإنجيلي القائل “هكَذَا يَصِيرُ الأخيرونَ أَوَّلِين، والأَوَّلُونَ أخيرين،” بالنظر إلى أن ستارمر ليس خطيباً مفوّهاً. وفي الواقع، سجل الفيديو الخاص به أمام ما يشبه خزانة ملابس بيضاء ذاتية التجميع، ولكنه حين وصل إلى ذلك التعبير ارتقى بخطابه إلى المستوى الذي تقتضيه المناسبة، وقدّم لمحة عن الأرض الموعودة في مرحلة ما بعد الفيروس.
كان من المفاجئ إذاً أن السياسي التالي الذي سيُعلّق على هذا الشعور ليس أحد أعضاء حكومة الظل الجديدة التي يقودها ستارمر، وإن كانت مريحة رؤية العودة إلى فكرة التعيين على أساس الاستحقاق في المعارضة الرسمية.
وبدلاً من ذلك، كان دومينيك راب، الذي تولّى مهام رئيس الوزراء في المؤتمر الصحافي يوم الخميس الماضي، هو من قال لموظفي الـ “إن إتش إس” ومقدمي الرعاية وعُمّال المتاجر الكبرى “لقد جعلتمونا جميعاً بالتأكيد نفكر طويلاً وملياً حول ماهية العمال الأساسيين في بلادنا”.
يبدو هذا التوافق شبيهاً بالإجماع لذي شهدته البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، وهو أن الأمور لن تبقى كما هي بعد زوال الأزمة، وأنه من رحم الشدّة، سيولد مجتمع أفضل. وعلى الرغم من فشل فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية ائتلافية، يبدو أن هناك اتفاقاً بين الأحزاب على أن القيمة التي كانت تُعطى لفئات مختلفة من العمال لم تكن منصفة ويجب تصحيحها.
لقد كتب بيتر كيلنر حول الصدى الذي أحدثته مجلة “بكتشر بوست” حين أعلنت في إصدارها الخاص عام 1941 أن “خطتنا لبريطانيا الجديدة ليست شيئاً خارج الحرب، أو شيئاً ما بعد الحرب. إنها جزء أساسي من أهداف حربنا. إنها في الواقع أكثر أهداف حربنا إيجابيةً. إنّ بريطانيا الجديدة هي الدولة التي نقاتل من أجلها”.
قد لا يبدو ما يقترحه ستارمر لبريطانيا بعد فيروس كورونا طموحاً كتوفير التغطية الشاملة بالرعاية الاجتماعية، على الرغم من أنّ محاولة إعادة توزيع الدخل بشكل معاكس بين أصحاب الأجور المرتفعة والمنخفضة تُعدُّ مهمة هائلة. لذا أعتقد أنه من الصواب صراحة أن يضع حزب العمال رؤية مثالية للخير الذي يمكن أن يخرج من المعاناة.
ومع ذلك، ينطوي الاعتقاد بأنّ ستارمر هو نموذج طبق الأصل لهذا الزمان عن كليمنت أتلي، رئيس الوزراء الأسبق، مؤسس الـ”إن إتش إس”، وأن الأشخاص سيتحولون بامتنان إلى حزب العمال بعد انتهاء الوباء للإشراف على بناء “القدس الجديدة”، على مشكلتين.
الأولى هي أن التعافي من الركود الاقتصادي الناجم عن فيروس كورونا قد يكون طويلاً وشاقاً، كما كانت الحال بالنسبة إلى محاولة الخروج من أزمات الحرب العالمية الثانية. فعلى الرغم من كل إنجازات حكومة أتلي، باتت الحياة بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من الأفراد أكثر صعوبة بعد الحرب ممّا كانت عليه خلالها. وبعد عامين من الحرب، في الشتاء القاسي لعام 1947 حين كان الخبز يُوزَّع بالحصة والوقود نادر، بلغ عدد الذين قالوا في استطلاع أجرته مؤسسة “غالوب” إنّهم يفضّلون العيش في “الوضع قبل الحرب” ضعف من أفادوا بأنّهم يفضلون العيش في الظروف السائدة حينذاك.
الحلم بـ”بريطانيا جديدة” يُكافَأ فيها العاملون الأساسيون على إسهامهم في توفير ضروريات الحياة سيصطدم بحقيقة الظروف الاقتصادية الصعبة. ففي نهاية المطاف، كانت فترة “التقشف” الأصلية في عهد حكومة أتلي.
قد يحدث الأمر ذاته تقريباً للمثالية التي تترك بصمتها على المواقف من التعاون العالمي الرامي إلى معالجة المشاكل التي “لا تعترف بالحدود” مثل تغير المناخ. وإذا عَلَّمَنا الوباء شيئاً واحداً، فهو أنه عندما تشتّد المشاكل العالمية، فإنّ التصدي لها يكون عن طريق حلول وطنية.
ويشكل التغيير الذي يمرّ به حزب المحافظين عقبة أخرى أمام فوز زعيم حزب العمال الجديد بثقة الشعب البريطاني وإقناعهم بأنه يسمع نداءهم بعدم تكرار الوضع “أبداً مرة أخرى”. كان دومينيك راب، الذي يُصوَّر دائماً على أنه من اليمين المتشدد في حزب المحافظين، هو من تحدث عن التفكير طويلاً وملياً حول ماهية العمال الرئيسيين الحقيقيين. كما أن وزير المالية المحافظ ريشي سوناك هو من استشار مؤتمر نقابات العمال حول استخدام المال العام لدفع 80 في المئة من أجور عمال القطاع الخاص.
من ناحية أخرى، فإنّ بوريس جونسون ليس هو تشرتشل، مهما تخيّل نفسه كذلك. كما أن تشرتشل، مهما حظي بالاحترام كزعيم حرب، لم يكن يحظى بالثقة كمهندس سلام بسبب سمعته قبل الحرب كمتمرّد يميني.
في المقابل، أظهر جونسون أنه يستطيع مقارعة حزب العمال على أرضه. والصراع بينه وبين ستارمر حول من سيكون الأنسب منهما لبناء “بريطانيا الجديدة” ما بعد كورونا، قد بدأ بالفعل.
جون رينتول
اندبنت عربي