الخوف هو الجائحة الأكبر من وباء كورونا. فرنسا خائفة، بلسان وزير الخارجية جان إيف لودريان، من أن يفاقم الوباء الانقسامات العالمية والخصومة “الأميركية- الصينية”. وأميركا خائفة، لا من الوباء الذي يسمّيه الرئيس دونالد ترمب “الفيروس الصيني”، بل من الصعود الصيني اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً. وما ربحته واشنطن في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي الذي انهار، تكاد تخسره في النسخة الجديدة من الحرب الباردة مع الصين. وما يفعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحت عنوان “الثأر من الحرب الباردة”، يبدو في المرتبة الثانية بعد صعود الصين في منسوب القلق الأميركي.
البروفيسور جوزف ناي حذّر ساكن البيت الأبيض من فخّين: “فخ ثو سيديدس”، المؤرخ الإغريقي، وهو خوف قوة عظمى من صعود قوة منافسة. و”فخ كيندلبرغر”، مهندس مشروع مارشال، وهو القلق لأن الصين ضعيفة أكثر ممّا هي قوية. لكن ترمب الذي لا يحب القراءة ولا يقيم وزناً للتاريخ، وقع في الفخ بالجمع بين الأمرين: الخوف على موقع أميركا من صعود الصين والتصرف كأنها أضعف من المواجهة الواسعة معها في صراع متعدّد الجبهات. وهو تنقل بين أقوى التقارب مع الرئيس شي جينبينغ وأقصى الخلاف عبر مزيج من التنافس والعداء الاستراتيجي والحرب التجارية ثم المطالبة بالتعويض عن نشر كورونا. والفارق كبير بين ظروف الحرب الباردة القديمة وظروف الحرب الباردة الجديدة، كذلك بين الاحتراف السياسي في إدارة الصراع بين الجبارين الأميركي والسوفياتي، وبين شغل الهواة في إدارة الصراع مع الصين. وهو أبعد بالطبع من اختصاره بقول مسؤول كبير في الخارجية الأميركية: “هذا قتال مختلف مع حضارة مختلفة وأيديولوجية مختلفة وقوة عظمى منافسة ليست قوقازية، في حين كان الصراع مع الاتحاد السوفياتي صراعاً “داخل العائلة الغربية”.
أيام الحرب الباردة القديمة، كانت أميركا تلعب بين موسكو وبكين متفوقةً بدرجات عليهما في معظم الأمور. كانت موسكو خارج النظام الاقتصادي المالي الحر. والتجارة بينها وواشنطن محدودة جداً. أوروبا الغربية كلها وراء أميركا. وتحت سقف الحرب الباردة، جرت أحداث حارة كثيرة. واشنطن أرسلت أكثر من خمسين مرة قوات إلى الخارج لحروب صغيرة. موسكو دفعت العالم إلى حافة حرب نووية قبل التراجع عنها في أزمة برلين وأزمة الصواريخ في كوبا. الحروب بالوكالة والانقلابات كانت ممكنة في “المناطق الرمادية”، وسباق التسلّح أيام الرئيس رونالد ريغن وبرنامج “حرب النجوم” جعل الأحمال ثقيلة على الاتحاد السوفياتي الذي أخذه ميخائيل غورباتشوف إلى “إعادة البناء”، فانهار. ويقول روبرت غيتس الذي كان يومها مديراً للاستخبارات المركزية ثم صار وزيراً للدفاع في كتاب “من الظلال” إن غورباتشوف “لم يكن عميلاً لنا، ولو كان كذلك، لما عرفنا كيف نرشده لكي يهندس تدمير الاتحاد السوفياتي كما فعل هو بنجاح”.
أما الحرب الباردة الجديدة، فإنّها بين قوى مشاركة في العولمة ومنظمة التجارة العالمية. ديون الصين على أميركا عبر سندات الخزانة تتجاوز تريليون دولار. الشركات الأميركية في الصين بالآلاف. حجم التجارة بين واشنطن وبكين يزيد على 600 مليار دولار سنوياً. اقتصاد الصين صار الثاني بعد الاقتصاد الأميركي قبل الاقتصاد الياباني. معظم الابتكارات التكنولوجية الأميركية سرقها الذين تصفهم الصين بأنهم “اللصوص الوطنيون”.
شي جينبينغ الذي يقول إن الصين ستكون “قوة علمية كونية” عام 2049، أي في مئوية الثورة، يعلن أن “ليست لدنيا جينة الهيمنة”. وبين الخبراء الصينيين من يقول إن بلاده “لا تريد أن تأخذ مكان أميركا على قمة العالم، بل حرمانها من مواقعها في المحيط الهادئ. يان شو تونغ من معهد العلاقات الدولية يرى أن “عالماً ثنائي القطبية بين أميركا والصين لن يكون عالماً على حافة الحرب”. وروسيا في تحالف مع الصين. ألمانيا وإيطاليا وفرنسا في طليعة الدول الأوروبية التي تريد توسيع الانفتاح على الصين. ومشروع “الحزام والطريق” الذي رصدت له بكين أكثر من تريليون دولار أعاد إحياء “طريق الحرير” عبر أكبر بنية تحتية تمتد من آسيا إلى أوروبا وأفريقيا.
ولن يسمع ترمب من فلاديمير بوتين ما سمعه ريتشارد نيكسون من ليونيد بريجنيف عام 1973، كما نقل سولزبيرغر عن نيكسون في كتاب “العالم وريتشارد نيكسون”: “الصينيون محبون للدماء، وعلينا نحن كأوروبيين أن نتّحد للسيطرة على العالم لأنهم سيصبحون في المستقبل قوة عظمى”.
سئل الملك فرنسوا الأول عن خلافه مع الإمبراطور تشارلز هابسبورغ، فقال: “نحن على تفاهم تام، كلٌّ منّا يريد السيطرة على إيطاليا”. وهذه حال أميركا والصين في اللعب على قمة العالم. وليس من السهل عليهما فكّ هذا التشابك.
رفيق خوري
اندبندت عربي