في سنة 2005 قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه إذا قرر الزعماء تعديل الدستور لأغراض تخدمهم، بهدف تمديد ولاياتهم على وجه التحديد، فلن يتبقى شيء من الدولة؛ وفي 2020 لم يفعل هذا الذي حذّر منه، وعلى نحو فضائحي أسوأ، فحسب؛ بل وضع موقع الرئاسة، والدولة بأسرها في الواقع، رهينة 12 سنة مقبلة من حكمه بموجب التعديلات الدستورية الأخيرة. الروس صوتوا لصالح أكثر من 200 تعديل دستوري، من كلّ واد عصا كما يجوز القول، بنسبة قاربت 77,92 ٪ لا يصحّ أن تُستبعد منها تلك النسب التي صنعتها سحوبات الجوائز، أو المكافأة الرئاسية بقيمة 10 آلاف روبل، للمشاركين في التصويت.
والخلاصة الأبرز أنّ قيصر روسيا المعاصر لم تعد تشبع نوازعه الاستبدادية تلك الصيغة القديمة من «التناوب الديمقراطي» بين الرئاسة/ رئاسة الوزراء مع ظلّه الطيّع ديمتري مدفيديف، والتي ظلت سارية المفعول منذ سنة 2008 وحتى مطلع 2020. وربما أدرك أنّ أحوال الاتحاد الروسي الراهنة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً على مستوى الداخل، ثمّ إقليمياً وأوروبياً وعالمياً على صعيد التدخلات العسكرية الخارجية واستئناف الحرب الباردة هنا وهناك؛ باتت تستدعي قبضة استبداد أشدّ صرامة، لم تعد تليق بها 20 سنة سالفة من أنساق الحكم. بهذا المعنى منحت التعديلات الرئيس الروسي صلاحيات إضافية، بينها حلّ البرلمان إذا رفض ثلاث مرّات متتالية تثبيت وزير أو نائب وزير، وإقالة أيّ عضو في مجلس الوزراء، وتعيين القضاة والمدعي العام ونوّابه، وتقوية مجلس الدولة الاستشاري (إذا شاء بوتين أن يترأسه، بعد العام 2036!).
وليس من دون حاجة ثقافية ماسة، وتطلّع إلى مكاسب مباشرة تتجاوز الحشد الشعبوي أو الاستقطاب الغوغائي، أنّ بين التعديلات الدستورية ما يحثّ الفتية على الإيمان بالله، واحترام السلف، وتكريم ذكرى «المدافعين عن الوطن» وضمان «الحقيقة التاريخية». ولم يعد خافياً أنّ الانحيازات القوموية والعنصرية باتت تسيّر سلوك الملايين من الروس، ممّن لم يعودوا بحاجة إلى مهرّج مثل فلاديمير جرينوفسكي (زعيم «حزب روسيا الليبرالي الديمقراطي»، الذي حلّ ثالثاً في الانتخابات التشريعية الروسية الأخيرة) كي يحرّك نوازعهم إلى نموذج القيصر ألكسندر الثالث؛ فثمة بوتين، قيصر هذه الأيام، الذي يزعم استعادة أمجاد الإمبراطورية ويستأنف رفعة القياصرة عبر القوّة والجبروت والهيمنة.
مفيد، هنا تحديداً، استذكار تلك المعركة المحتدمة في ميادين إيديولوجية، ليست سوى السقوف الظاهرة من بواطن اجتماعية واقتصادية عميقة؛ بين استقطابين عملاقين تتمحور من حولهما وتلتقي فيهما، أو أحياناً على النقيض منهما كلما اقتضت الحال، غالبية تيارات الشارع السياسي والشعبي الروسي؛ الشيوعية، الليبرالية، الاشتراكية الإصلاحية، «اشتراكية السوق»، والنزعات القومية المعتدلة أو تلك المتطرفة: الاستقطاب الاستغرابي (نسبة إلى الغرب)، والاستقطاب الأورو – آسيوي (نسبة إلى موقع روسيا الفريد على التخوم الحاسمة بين قارّتين شهدتا، وتواصلان احتضان، أعمق الصراعات الحضارية على مرّ التاريخ). وهذه معركة تصنع كلّ يوم، وبالتالي تُبلور أكثر فأكثر وتفرز على الأرض، المشهد الفسيفسائي المعقد الذي يرسم قسمات روسيا ما بعد طيّ صفحة الاتحاد السوفييتي.
إذا لم تكن هذه هي روسيا «بيت الموتى»، في الوصف الذي اختاره لها أديبها الكبير فيودور دستويفسكي أواخر القرن التاسع عشر؛ فإنها ليست موشكة، في القريب، على مغادرة بيت الديناصور الكسيح
واضح، في المقابل، أنّ بثّ روح النوستالجيا الإمبراطورية في نفوس الروس، فضلاً عن سياسات فعلية في التدخل العسكري الخارجي، أو السعي الدائم إلى إعادة فرض القطبية الثنائية في العلاقات الدولية وتوازن القوّة بين الجبابرة؛ لم تفلح، لأنها فعلياً لا تكفي، في ترقية موقع موسكو على خريطة النظام العالمي، إذا ظلت المعطيات الجيو – سياسية والاقتصادية أكثر تواضعاً، أو أدعى إلى التدهور والانحطاط. ففي روسيا، وليس في طاجكستان أو تركستان أو جورجيا أو أوكرانيا، يلجأ الملايين من عمّال المناجم إلى سلاح الإضراب المفتوح، لا من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل أو تحقيق مطالب مهنية؛ بل ببساطة من أجل استلام الأجور ذاتها، في المقام الأوّل! وأن تلجأ الرئاسة الروسية إلى رشوة المواطنين كي يتوافدوا على صناديق التصويت لصالح التعديلات الدستورية، فما قيمة 10 آلاف روبل إذا كانت لا تشتري 150 دولاراً!
وحتى إذا وضع المرء جانباً حروب أسعار النفط وما تُلحقه من أضرار بليغة بالميزانيات الروسية المتعاقبة، أو تغاضى عن العقوبات الاقتصادية التي تضرب روسيا منذ سنوات؛ فإنّ ما يبقى ثابتاً وصارخاً هو ذلك الانحدار الحثيث لمستوى المعيشة، والتآكل المضطرد في القدرة الشرائية، والفشل المتواصل في الخطط الاقتصادية، والتضخّم والعجز والبطالة والمافيا. وها أنّ روسيا تدخل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين وكأنها ترتدّ إلى أوائل القرن العشرين، ليس لجهة تعاظم الاستبداد وشرعنته واستفحال أوهام القوّة والجبروت والأمجاد، فحسب؛ بل كذلك لمرأى أكوام من الروبلات (وليس الكوبيكات!) لا تكاد تبتاع سلّة خضار. الدولار هو العملة الوطنية غير المعلنة في الأسواق والمصارف والشوارع، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي هما السيف المسلط على عنق السيادة الوطنية، تماماً كما هي الحال في كثير من اقتصادات أنظمة «العالم الثالث».
وإذ تتفاقم مآزق البلد، وتتعدد مشكلاته على خلفية بحث الكرملين عن موقع القوّة العظمى المهيمنة عسكرياً، الساعية إلى بوابات النفوذ عبر الجيوش والصواريخ والميليشيات، وليس عبر الاقتصاد والتجارة والتصنيع غير العسكري؛ فذلك لأنّ روسيا هذه الأيام هي نتاج كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في سلسلة من أكثر أصنافه غرابة وتشوّهاً: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (أكثر من 25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)؛ كسيح عاجز عن التقدم خطوة إلى الأمام، إلا إذا توقّف في المكان بمعدل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء؛ فاشل في مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة)؛ ولم يكن يكفي تمثيلاً على ديناصوريته الكسيحة من هزال طرائقه في مواجهة فيروس كورونا المستجد.
كأنها روسيا كما أرادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (ومن قبله أوائل أنبياء الحرب الباردة)، أو كما يريدها صندوق النقد الدولي: قوّة عظمى تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلى مصافّ المقاييس التقليدية لدولة عالمثالثية، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اقتصاد نهض على التصنيع الثقيل، ولكنّ أساسه الوطني يعتمد اليوم على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، ويرتهن أكثر فأكثر للرأسمال الأجنبي والاستثمارات متعددة الجنسيات. تباين صارخ في التوزيع الاجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادّة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعمة المنشطرة بدورها إلى كومبرادور رأسمالي متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط على اختلاف أجنداتها.
ولن يكون غائباً عن الأذهان، أغلب الظنّ، وفي أوساط الحالمين باستئناف أمجاد القياصرة مثل أولئك الذين يتضورون جوعاً أمام غائلة البطالة وانحطاط المستوى المعيشي؛ أنّ روسيا المعاصرة يحكمها رجل يطمع إلى التفوّق على جوزيف ستالين، من حيث سنوات الحكم وربما بعض طبائع الاستبداد؛ ولن ينافسه في الرقم القياسي للبقاء على رأس السلطة سوى… بطرس الأكبر نفسه، الذي حكم روسيا 43 سنة. فإذا لم تكن هذه هي روسيا «بيت الموتى»، في الوصف الذي اختاره لها أديبها الكبير فيودور دستويفسكي أواخر القرن التاسع عشر؛ فإنها ليست موشكة، في القريب، على مغادرة بيت الديناصور الكسيح.
صبحي حديدي
القدس العربي