تتيح لنا متابعة التحولات الجارية في موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التأكد من استمرار إسرائيل في تعزيز سياستها الاستعمارية، وذلك بتوسيع مسلسلات الاستيطان وتوسيع مظاهر العنف والعنصرية، وقد تحوَّلا إلى سمتين ملازمتين لسياساتها. يحصل ذلك خارج مقتضيات اتفاقية أوسلو، وما ترتب عنها من إجراءاتٍ في ملف التسوية السلمية، بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة والقطاع ودولة الاحتلال. ومقابل التصعيد الإسرائيلي، يتشكَّل مأزق فلسطيني، مرتبط بصفقة القرن ومشروع ضم أراضي الأغوار ومستوطنات الضفة الغربية إلى إسرائيل، حيث أصبحنا نُعاين نتيجة ذلك درجات الذهول القصوى التي لحقت قيادة منظمة التحرير الفلسطيني، والمتقلدين زمام سلطة الحكم الذاتي. أصيب الجميع بالذهول، وهم يشاهدون كثافة الهجومات الجديدة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، بعد تعطيل مسارات السلام المترتبة عن متاهة أوسلو.
لم يعد الفاعل السياسي الفلسطيني يمتلك اليوم القدرة على الوقوف والنظر والمبادرة، وانخرط في لحظة انقباض أفقدته القدرة على الإدراك والتمييز. نتبيَّن علامات ذلك في البيانات الخجولة التي عبَّر فيها الفلسطينيون وبعض التنظيمات المدنية العربية، عن مواقفهم المبدئية من أشكال التصعيد الإسرائيلي، في وقتٍ نتصوَّر أننا في أمَسّ الحاجة إلى مواقف تسمح بتحريك ما لحق القضية من صمت وتراجُع عن الحدود الدنيا من المواقف والمبادرات التي تمنح أُفُقَها التحرّري دينامية سياسية جديدة، تقلصت حدود الجدل السياسي في الفصائل الفلسطينية، وعمّت مظاهر الإنهاك والوَهَن عربياً وفلسطينياً.. وضمن هذا السياق، أفترض أنه لم يعد في الوسع القول، في موضوع تحوُّلات القضية الفلسطينية، ما أشبه اليوم بالبارحة! فنحن نواجه اليوم مأزقاً سياسياً جديداً، في شروط وسياقات تختلف عما عهدناه، في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن.
بإمكان الشعوب المستعمرة أن تواصل ابتكار أساليب النضال والمقاومة التي تُمَكِّنُها من مغالبة ما يصيبها من ذهول ووَهَن
استنفد الفاعل السياسي المناهض والمقاوم والمنتفض والصامد، ضد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني كثيراً من أدواته، كما استنفدت الأجيال التي تواصل حمل مشعل المقاومة وراية التحرير بعده، أدواتها وخطاباتها، ورَكَنت ما تبقى من أسلحتها.. ولم يحصل التقدّم المنتظر، لا في مسألة التسوية السلمية، ولا في مسألة المواجهة بالمقاومة. توقفت التنظيمات المدنية العربية عن إسناد القضية الفلسطينية، الأمر الذي مكَّن إسرائيل وداعمي مشروعها الاستيطاني، من اختراق أنظمة عربية عديدة بكثير من السهولة، فتضاعفت درجات الذهول، وأصبحت تشمل أغلب الأنظمة العربية.
توقف المثقفون الطلائعيون المؤمنون بعدالة القضية عن التفكير في مآلات المشروع الوطني الفلسطيني، خارج التخندقات التي رسمتها فصائل منظمة التحرير منذ سنوات، إلا أن القضية لا تزال قائمة، وهي قضية شعب وتاريخ وحروب ومعاهدات، عَمَّرَت قرناً كاملاً بحسابات وَعْد التأسيس سنة 1917. وهي تحتاج اليوم إلى جدل سياسي جديد، مكافئ لمختلف تجليات المأزق المركَّب الذي يعرفه واقع القضية اليوم، وتعرفه مظاهر التمزق والتخندق السائدة في المشرق العربي، جدل يناسب التحوّلات الفلسطينية والعربية، تحوُّلات ما بعد الثورات العربية والثورات المضادَّة، إضافة إلى التحوّلات التي تعرفها القِوى الإقليمية والدولية في المشرق العربي، وقد انخرطت جميعُها في لعبة المصالح، نقول هذا، لعلنا نفتح أعيُننا على ما يجري، حتى لا يزداد المأزق ضيقاً، ويتحول الذهول إلى حالةٍ قارّة.
لا وقت للبكاء ولا لنفض اليد، حتى ولو اقتضى الأمر الانخراط المؤقت في لحظة كمون، لحظة تُشَكِّل في أزمنة حركات التحرُّر مناسبة للمواجهة والسؤال، مواجهة الذات والمصير
لا وقت للبكاء ولا لنفض اليد، حتى ولو اقتضى الأمر الانخراط المؤقت في لحظة كمون، لحظة تُشَكِّل في أزمنة حركات التحرُّر مناسبة للمواجهة والسؤال، مواجهة الذات والمصير، ورسم آفاق الطريق المنتظر.. نقصد بذلك اقتناص مناسبةٍ تاريخية للتفكير مجدّداً في المشروع الوطني الفلسطيني، وشروطه الجديدة وأدواته المطلوبة، وكذا الخطابات المناسبة لسياقات ما أصبح يحيط به اليوم من تحوّلات، التفكير في أدوار منظمة التحرير ووظائف سلطة الحكم الذاتي، أي التفكير في مختلف التحولات والمؤسسات والأهداف.
نتعلم من تجارب التحرر والتحرير في التاريخ أنه بإمكان الشعوب المستعمرة أن تواصل ابتكار أساليب النضال والمقاومة التي تُمَكِّنُها من مغالبة ما يصيبها من ذهول ووَهَن، لتواصل الوقوف والتصدّي لكل من يريد إبادتها.. والتصعيد الإسرائيلي اليوم، كما يتجلى في مشروع الضَّمّ المُعلن والمؤجل، يكشف النَّهَم الإسرائيلي المتزايد لامتلاك ما تبقَّى من أرض فلسطين.
مأزق الراهن الفلسطيني يطرح جملةً من التحديات القابلة للتعقل والمواجهة، تقتضي، أولاً، تجاوز حالة الذهول القائمة اليوم، حالة الانقسام المعلنة
لا تتردد إسرائيل، وهي تواصل سياستها الاستيطانية، وترويج أوهام الازدهار بأموال الخليج العربي، في التصريح “بصفقة القرن” مستعيدةً وُعُود “الشرق الأوسط الجديد”. نُعايِن ذلك في موضوع مواصلة تطوير صور اختراقها بلدان الخليج العربي، وذلك بتوسيع وتائر التطبيع وتشريعها، فقد انتقلت هذه الوتيرة من مجالات الاقتصاد والمخابرات والسياحة إلى الطب والبحث العلمي، وذلك على هامش جائحة كورونا. وهي تجد في الدعم الأميركي لمخططاتها ما يقدّم لها السند المناسب، خصوصا وأن الولايات المتحدة الأميركية تنخرط في المشاركة والتخطيط لتحوُّلات كثيرة جارية في الخليج والمشرق العربيين، حيث تقوم بأدوار مركّبة ومتناقضة بين أصدقائها في الخليج، من أجل إفراغ المشروع الوطني الفلسطيني من أفقه التحرّري، ومواصلة الدعم اللامشروط لإسرائيل.
نتصوَّر أن مأزق الراهن الفلسطيني يطرح جملةً من التحديات القابلة للتعقل والمواجهة، وهي تقتضي أولاً، تجاوز حالة الذهول القائمة اليوم، حالة الانقسام المعلنة، وهي أحوال معتادة في التاريخ. كما نتصوَّر أن الرصيد النضالي للشعب الفلسطيني وللقوى العربية والدولية، المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، لا يمكن أن يتواصل أمام الاندفاع الإسرائيلي الأميركي المتزايِد.. ويمكن الانطلاق في بناء برنامج استعجالي لمواجهة المأزق الجديد، برنامج يوقف الغطرسة المتواصلة لدولة الاحتلال، ويعيد الأمور إلى سياقاتها التحرّرية المُقَاوِمة.. الأمر الذي يعيد التوازن إلى الفعل والخيارات الفلسطينية. ولعل الفاعل السياسي الفلسطيني، عندما يتجاوز لحظة الذهول، يعرف أكثر من غيره أن غياب ما يتطلع إليه مما ذُكر، سيضاعف مسؤولياته في زمن لاحق.
كمال عبداللطيف
العربي الجديد