لم يحصل أن حازت قضية ما إجماعا دوليا مثل الإجماع الذي تحظى به القضية الفلسطينية حاليا، ولم تشهد الأمم المتحدة التي تحتفل بعيد ميلادها الـ75 ، في تاريخها مثل هذا الاستقطاب حول قضية، مثلما هو الوضع بالنسبة لحل الدولتين. ورغم ذلك يبقى السؤال هو، هل سيضمن هذا الاستقطاب والإجماع الدوليان والتأييد لحل الدولتين، للفلسطينيين الدولة المستقلة ضمن حدود حزيران/يونيو1967 وعاصمتها القدس الشرقية، التي يصبون إليها.
ما نشهده الآن من تأييد للقضية الفلسطينية هو شيء نادر، بل فريد من نوعه، وعلى وجه التحديد، الرفض المطلق لقرار حكومة الاحتلال ضم أراض من الضفة الغربية المحتلة، تصل إلى أكثر من 30% من مساحتها، بما فيها منطقة الأغوار، التي نكرر القول إنها تشكل السلة الغذائية للضفة، وشمال البحر الميت، الذي يعتبر منطقة سياحية من الدرجة الأولى، ومصدر دخل كبير.
ذلك القرار الذي نص اتفاق تشكيل الحكومة الائتلافية لدولة الاحتلال، بين حزبي الليكود برئاسة نتنياهو، وأزرق أبيض بزعامة بني غانتس، على تنفيذه في الأول من تموز/يوليو الماضي. وفات هذا الموعد بدون تنفيذ القرار، ربما بسبب الضغوط الدولية، أو مخاوف داخلية عبّرت عنها قيادات أمنية وعسكرية وسياسية واقتصادية إسرائيلية، معظمها إن لم يكن كلها قيادات سابقة، أو كما يقولون في الائتلاف الحاكم، إن هناك قضايا أكثر إلحاحا من قضية الضم مثل، مكافحة جائحة كورونا المتفشية، ومعالجة المشاكل الاقتصادية الناجمة عنها، مع ارتفاع عدد العاطلين عن العمل إلى نحو 22% من القوى العاملة في إسرائيل. وأيا كانت الأسباب فإن الإعلان عن الضم، كي يكتسب الشرعية الداخلية، لم يتم رغم أن قضم الأراضي الفلسطينية مستمر، ولم يتوقف في جنوب بيت لحم والقدس والخليل ونابلس ومنطقة الأغوار.
إنه تأييد منقطع النظير تقف فيه مجمل دول العالم من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال في جهة، والكثير من هذه الدول أصدقاء لإسرائيل، بينما تقف إسرائيل الدولة المحتلة ومعها إدارة الرئيس ترامب الأكثر صهيونية من اليمين الصهيوني، ومن ورائه الحزب الجمهوري. نقول إدارة ترامب وليس الولايات المتحدة، لأنه ولأول مرة، ليس ثمة توافق بين الحزب الجمهوري الحاكم والحزب الديمقراطي، المرجح للفوز في الانتخابات في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، حول الطريقة التي تدير بها الإدارة الحالية في البيت الأبيض، القضية الفلسطينية، متمثلة بصفقة القرن التصفوية التآمرية، التي أعلنها ترامب في البيت الأبيض في 28 كانون الثاني/يناير2020 بحضور نتنياهو وسفراء الإمارات وعمان والبحرين، ورؤيتها غير العادلة والمنحازة والمرفوضة فلسطينيا، لحل الصراع في الشرق الأوسط. إنها رؤية تحرم الفلسطينيين من دولة مستقلة ذات سيادة وحدود آمنة، وتعرض عليهم في المقابل دولة مقطعة الأوصال، وإمارات متناثرة. دولة من غير القدس، ومن غير حدود، ومن غير أجواء ومن غير مياه، وربما لاحقا حتى من غير أوكسجين وهواء إلا بمقابل. إدارة تسعى لقلب المفاهيم والقوانين، وقرارات الشرعية الدولية، بل حتى السياسات الأمريكية القائمة منذ عشرات السنوات، وترويضها خدمة لدولة الاحتلال.. وخلافا لدول العالم، قرر وزير خارجية واشنطن والثالوث الصهيوني كوشنر وفريدمان وسابقا غرينبلات ليحل محله بيركوفيتش، أن المستوطنات ليست غير شرعية، كما تنص قرارات الشرعية الدولية.
وهذا الموقف الدولي الموحد المناهض بقوة لمخطط الضم الإسرائيلي، لا يمكن الادعاء بأنه حب بالفلسطينيين، بل حماية للمنظومة والشرعية الدولية وأيضا حماية لإسرائيل من نفسها، وخوفا من وقوعها في مطب الدولة الواحدة والأبرتهايد، الذي سيحرمها من سمة الديمقراطية الزائفة، التي تزعم أنها الوحيدة في الشرق الأوسط، ليرددها من بعدها المطبعون والمتأسرلون العرب. ويرى أصدقاء إسرائيل في هذه المخططات خطورة على إسرائيل. وهل هناك أحرص من دنيس روس المبعوث الأمريكي الأسبق للشرق الأوسط، ومن قيادات لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية على إسرائيل. فهو يعارض مخطط الضم، ويرى فيه خطورة على مستقبل إسرائيل.
تحركاتنا يجب أن تسبق الموقف الأوروبي والدولي بخطوات عديدة، نتخذها على الأرض لمواجهة القضم التدريجي للضفة
نعم لدينا هذا الكم الهائل من الدعم، وكي أكون أكثر دقة، هذا الحشد الكبير من الرفض العالمي للخطوات التهويدية الإسرائيلية، ليس لأراضي الضفة، بل أيضا للقدس الشرقية، التي تسارع دولة الاحتلال إلى تغيير معالمها الجغرافية والتاريخية، وتبديل اسماء الشوارع والحارات، كي تتماشى مع الرواية الصهيونية. يحفرون الأنفاق تحت الأرض ويصادرون الأراضي والمباني فوق الأرض، ويهدمون منازل الفلسطينيين ويرغمون بعضهم على هدم منازلهم بأيديهم. وتقرر محاكمهم إغلاق مصلى باب الرحمة في المسجد الأقصى، الذي تمكن الفلسطينيون من فتحه بالقوة بعد إغلاق استمر نحو 16 عاما، تمهيدا لتحويله إلى كنيس يهودي توطئة لبناء الهيكل المزعوم محل الأقصى.
إنه تأييد لم يحلم به الفلسطينيون، وعليهم أن يستغلوه أحسن استغلال، لا أن يعتمدوا عليه ولا يكتفوا به، بل عليهم أن يطالبوا بممارسة هذا الرفض على أرض الواقع، كي لا يكون مخطط الضم واقعا على الأرض. باختصار يجب ألا يضع الفلسطينيون أياديهم بماء بارد، فليس ثمة ما هو مضمون مئة في المئة. فهذا التأييد قد يتلاشى بسرعة، وإذا كنا أكثر تفاؤلا نقول إنه قد يتلاشى تدريجيا مثلما حصل مع أوكرانيا في قضية شبه جزيرة القرم، التي وقفت دول الاتحاد الأوروبي ومعها الدول الناطقة باللغة الإنكليزية امريكا وكندا واستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا، إلى جانبها ضد الخطوة الروسية.
وأختتم بالقول، إن هذا الرفض بل التهديد الدولي لدولة الاحتلال يبقى حبرا على ورق وكلاما في الهواء لا قيمة له، إذا لم ير طريقه للتطبيق على الأرض، سواء على شكل مقاطعات اقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية لإسرائيل، وليس فقط المستوطنات، أو سحب الاعتراف بها وطردها من المنظمات الدولية، بدءا من الأمم المتحدة وحتى أصغر منظمة. وإلا فإن هذه المواقف إذا اقتصرت فقط على مقاطعات اقتصادية مشروطة بفترة زمنية ستزول مع مرور السنين. وسيكون مصير القضية الفلسطينية كمصير شبه جزيرة القرم، كما ذكرنا، بعد أن ينفض من حولها هذا الجمع.
ونكرر القول إن اوروبا التي تدعمها أمريكا توحدت ضد فرض السيادة الروسية على القرم، وفرضت المقاطعة على موسكو عقابا لها، ولإرغامها على التراجع عن قرار الضم. وبدلا من أن تتراجع موسكو تراجعت العقوبات وتعود العلاقات تدريجيا إلى طبيعتها.
تحركاتنا واستعداداتنا يجب أن تسبق الموقف الأوروبي والدولي بخطوات عديدة، نتخذها على الأرض لمواجهة القضم التدريجي للضفة. يجب ألا يكون اعتمادنا فقط على هذا الموقف ونكتفي به. يجب أن نكون متقدمين عليهم حتى نشكل عامل ضغط كبير، يوازي إن لم يكن أكثر الضغط الإسرائيلي، للحفاظ على هذا الموقف العالمي ومطالبته بتطبيق القوانين الدولية، وقرارات الشرعية الدولية على إسرائيل، التي تعامل حتى اليوم كدولة فوق القانون، وباتخاذ الخطوات العملية التي تضمن وضعها عند حدها والاعتراف بدولة فلسطينية. اعتمادنا يجب أن لا يكون على القوى الخارجية، رغم أهمية مواقفها ودعمها.. اعتمادنا بالأساس يجب ألا يكون إلا على قدراتنا الذاتية، وهي حقا ضخمة، اذا ما أحسن استخدامها، ونحن بها قادرون على إلحاق الهزيمة بالاحتلال ونيل الاستقلال. ونبدأ بتثبيت أقدام شعبنا على أرضه، ودعم صموده ليس بالكلام وهو كثير. فالصمود الفلسطيني هو الرد الأساسي على الاحتلال وقطعان مستوطنيه واعتداءاتهم اليومية المتكررة، الرامية إلى قطع أرزاق المزارعين الفلسطينيين لإرغامهم على ترك أراضيهم والرحيل عنها.
يجب تعزيز الوحدة الفلسطينية بإنهاء الانشقاق القائم وتحقيق المصالحة التي بدأت بالمؤتمر الصحافي الافتراضي المشترك بين الرجوب والعاروري، الذي كان خطوة في الاتجاه الصحيح، ويفترض أن يتبعه مهرجان توحيدي في غزة، لكن يبدو أن الهمم وكما في كل مرة خفت ولم يعد هناك حديث عنها. تعزيز المقاومة بكل الوسائل المتاحة بدون تردد فلا احترام إلا للقوي. والتحضير ليوم الانفجار الكبير وهو آت حتما بعد أن يفشل هذا الإجماع الدولي، خاصة اذا ما فاز ترامب بالرئاسة مجددا، في إرغام إسرائيل على إلغاء مخططاتها الاستيطانية، والانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية.
علي الصالح
القدس العربي