أثار مقالي السابق عن الجنرال سلطان هاشم، الكثير من ردود الأفعال، المرحـــبة والمستاءة مما ورد فيه من أفكار أو آراء، وقد تمحورت أغلب الاعتراضات حول هوامش الموضوع، وليس حول فكرته المحورية، وهي محاكمة رموز النظام، وبينهم ضباط كبار بتهم جرائم حرب ارتكبوها.
كما أشار العديد من المتابعين إلى الخصال الحميدة التي يتمتع بها سلطان هاشم، واعتبروا ذلك بمثابة شروط تخفيفية للتعامل مع ما جرى على الأرض. لكن الاعتراض الأبرز كان منصبا على هامش آخر، تمثل بمقارنة ما جرى بما يجري اليوم. لكن المتعاطين مع الشأن العراقي ما زالوا يقارنون بين السيئ والأسوأ، وفقا لوجهة النظر التي يتبناها كل شخص.
وهنا أود أن أوضح بعض الأفكار التي طرحت، وأناقش بعض الاعتراضات، ولكي تكون أطروحتي في الصفحة الثانية من الموضوع مدعومة بالأدلة الملموسة، سأتناول شخصية جنرال آخر، كان زميلا وقريبا من سلطان هاشم، لكنه قفز من سفينة الديكتاتور الغارقة قبيل إسقاطه، وسعى إلى أن يكون له دور قيادي في عراق ما بعد 2003، لكن ولأسباب مختلفة لم يتحقق له ما أراد، إنه الجنرال نزار الخزرجي رئيس أركان الجيش الأسبق الذي اعتبر أكبر ضابط انشق على صدام حسين منتصف التسعينيات، ومثّل هروبه ضربة موجعة للنظام حينذاك، لكنه أيضا واجه محاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وإبادة جماعية في منفاه في الدنمارك، ثم طويت صفحة المحاكمة مع الكثير من الألغاز، التي لم تكشف كاملة حتى الآن.
المتعاطون مع الشأن العراقي ما زالوا يقارنون بين السيئ والأسوأ، وفقا لوجهة النظر التي يتبناها كل شخص
نزار الخزرجي تعاطى مع الأمر بطرق مختلفة شابها التقلب، وتغليب مصلحته السياسية، فقد هرب من بغداد إلى كردستان، ومنها إلى تركيا، ثم استقر لمدة في العاصمة الأردنية عمان، وتعاون مع حركة الوفاق الوطني العراقي المعارضة لنظام صدام، التي يقودها إياد علاوي، وكما يذكر الخزرجي إنه تعرض لعدة محاولات اغتيال في عمان، ما اضطره إلى السفر وطلب اللجوء السياسي في الدنمارك، لكن بعض المقربين يشيرون إلى إنه لم يتقبل وضعه كتابع لسياسيين يعتبرهم أقل شأنا منه فرحل إلى أوروبا، وفي منفاه الدنماركي أثيرت ضده قضية جرائم الحرب المرتبطة بعمليات الأنفال وجريمة حلبجة، وحرك القضية في المحاكم الاوروبية ناشطون أكراد، لكن قبيل اشتعال الحرب في العراق طوي الملف، واختفى الخزرجي من مدينته النائية في الدنمارك، في ظروف غامضة ليظهر في سوريا لمراقبة الوضع العراقي إبان الاجتياح الأمريكي.
ويروي الخزرجي قصة ما حصل في الأنفال وحلبجة أولا في لقائه المطول مع غسان شربل، الذي نشر في خمس حلقات في جريدة «الشرق الاوسط» السعودية ما بين 28 نوفمبر 2002، و2 ديسمبر 2002، أي قبيل بضعة أشهر فقط من إسقاط نظام صدام في إبريل 2003، فيذكر؛ «تعرضت حلبجة لضربة جوية بأمر من القائد العام (يقصد صدام حسين)، كان علي حسن المجيد مسؤولا عن الشمال وأعطي صلاحيات استثنائية كاملة، وكانت هناك هجمات إيرانية في المنطقة، أبلغت عناصر أمنية وحزبية علي حسن المجيد أن حلبجة سقطت في يد الإيرانيين، فأخبر صدام بذلك، عندها أمر صدام بتوجيه (ضربة خاصة) إلى حلبجة، معتقدا انه سيكبد الإيرانيين خسائر كبيرة. كانت الضربة جوية، والغريب أن حلبجة ساعة الضربة لم تكن قد سقطت بيد الإيرانيين، وكان لايزال فيها عدد من الجنود العراقيين، وقد أكد عدد من القادة الأكراد إنهم عثروا بين ضحايا حلبجة على جثث جنود عراقيين، قائد الفرقة التي تتولى مسؤولية الأمن في المنطقة لم يكن يعرف بالضربة، ولا قائد الفيلق، ولا أنا رئيس الأركان، ولا وزير الدفاع نائب القائد العام الفريق الأول عدنان خير الله. لقد عرفنا بعد حدوث الضربة».
وعندما يسأله شربل داغر؛ من يتحمل مسؤولية حلبجة؟ يجيب الخزرجي بكل ثقة وبدون مواربة، «ثلاثة، صدام حسين الذي أصدر الأمر باستخدام السلاح الكيماوي، وعلي حسن المجيد الذي نقل المعلومات الخاطئة واقترح الضربة الخاصة، وهناك مسؤولية حسين كامل بوصفه المصنع لهذا السلاح. علي حسن المجيد استخدم الضربات الكيماوية حتى في عمليات الأنفال». ثم يضيف اتهاما آخر إلى علي حسن المجيد الشهير بـ»علي كيماوي»، بأنه هو من قاد حملة الأنفال بعد أن مُنح قيادة قوات نظامية وأفواج من الأكراد (الجحوش)، وقوات جيش شعبي، وقوى الأمن في محافظات كردستان، يقول الخزرجي، «في ضوء هذه الصلاحيات والإمكانات بدأ علي حسن المجيد عملية التقتيل والتشريد التي يحاولون إلصاق جزء منها بي. لم تكن لرئاسة الأركان أي سلطة على المجيد، ولم يكن تابعا لنا وليس لنا حق التدخل فيما يفعل. هنالك من يقول لماذا لم تستقل إذن؟ ينسى هؤلاء أن قرارا صدر عن مجلس قيادة الثورة يمنع الموظف من الاستقالة». وينسى الخزرجي أنه تمكن من الهرب بعد ذلك في اللحظة التي قرر فيها التخلي عن النظام الآيل للسقوط. من هذه الاستشهادات الطويلة من كلام الخزرجي والمنشورة بعلمه، تتبين وجهة نظره عندما كان يواجه تهمة ارتكاب جرائم حرب أمام محكمة مختصة في دولة أوروبية، علما أنه كان يسعى حينذاك لأن يشغل مكانا قياديا في عراق ما بعد الحرب.
لكن المياه جرت والجنرال الخزرجي، منع أو امتنع عما كان يصبو إليه، وعاد بعد كل ما فعله إلى منفاه، وكان العراق قد احتل، وأسقط نظام صدام حسين، وواجه رموز النظام، وبينهم جنرالات من زملاء الخزرجي محاكمات على جرائمهم، فإذا بنزار الخزرجي ينشر كتابا بالتعاون مع المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات في الدوحة بعنوان «الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988.. مذكرات مقاتل» الذي نشر عام 2014، وقد انقلب فيه رأسا على عقب، وصرح بعكس كل تصريحاته السابقة فيما يخص جرائم الحرب التي حدثت. يذكر الخزرجي جريمة الأنفال في كتابه الثاني، بعد أن آمن الملاحقة القضائية، وبعد أن طويت صفحة محاكمته بسبب التدخلات الامريكية، فيقول، «كُتب الكثير عن عمليات الأنفال، وشوهت بنظر الرأي العام بفعل أجهزة الدعاية الايرانية والغربية، التي غذاها المسلحون الاكراد، بكل ما يقصد به شيطنة الدولة. في واقع حالها لم تكن عمليات الأنفال إلا عملية أمن داخلي نفذت بأقل ما يمكن من القوات المسلحة، وبأكثر ما يمكن من أفواج الدفاع الوطني الكردية، التي تطوعت لمساعدة الدولة لفرض سيطرتها على الإقليم العراقي ومنع الايرانيين من العبث بالوضع الداخلي العراقي». ثم يصل إلى مرحلة نفي حقائق أقرتها كل اللجان التي درست وقائع ومعطيات الجريمة، فيقول «كما كُتب الكثير عن القرى المهدمة وغيرها، وهذه القرى لم تكن بأغلبيتها، إلا تلك القرى التي قررت الدولة إخلاءها من سكانها في وقت مبكر، وعوضت هؤلاء السكان تعويضا مجزيا، ونقلتهم إلى مجمعات سكنية تتوافر فيها الخدمات التعليمية والطبية والبلدية المختلفة».
أما جريمة حلبجة، فيصفها الخزرجي وبكل وقاحة متراجعا عن تصريحاته واتهاماته لرموز نظام كان في خدمته، فيصف الجريمة في فصل تحت عنوان (سقوط حلبجة وأسطورة ضربها بالكيماوي) يقول فيه، «كان هناك نشاط يسترعي الانتباه على الشبكات اللاسلكية للعدو والمسلحين الأكراد، عن حدث ما في قاطع حلبجة، وعن ضربة حدثت، اتصل الوزير فاخبروه، أن أجهزة التنصت استرقت معلومات متفرقة عن شي ما قد حدث، ولم يتضح بعد أبعاده. بعد بضعة أيام ادعى الايرانيون والمسلحون الاكراد أن الطائرات العراقية نفذت ضربة كيماوية على حلبجة… ألتقيت لاحقا عددا من قادة القوات الجوية، وأكدوا لي جميعا أن أي طائرات لم تقلع من قواعدها لمثل هذا الواجب». ويصر الخزرجي على تغيير أقواله واتهاماته السابقة للنظام عبر إشارته إلى أن الايرانيين هم من ضربوا حلبجة بالسلاح الكيماوي، وهي الاكذوبة التي استخدمها النظام سابقا، إذ يختتم الخزرجي كلامه بالقول، «أنا متأكد أن يوما ما سيأتي وستعلن صراحة أن الجانب الايراني هو الذي ضرب حلبجة بالسلاح الكيماوي، لأن العراق لم يكن يملك النوع الذي استخدم في الضربة».
هذا حال أحد كبار جنرالاتنا ممن اتهموا بارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية في ظل نظام الديكتاتور، عندما تداهمه الأخطار يتبرأ من جرائمه ويدعي أنه غير معني بها، أو أنه كان مجبرا على القيام بها. وما أن يزول الخطر، حتى يلفق الأكاذيب المتماهية مع سرديات الديكتاتور، وأقول ختاما لمن طالب بأن نحذو حذو دولة جنوب افريقيا في معالجتها جرائم الحرب بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، أقول لهم، إن مجرمي الحرب في جنوب افريقيا حضروا المحاكمات، وأعترفوا أمام ضحاياهم بما أرتكبوا، وطلبوا منهم الصفح، وكانت المحكمة تأخذ بما تقرره الضحية، فإذا اختار العفو فبها، أو يختار عدم العفو وعندها يواجه المجرم عقوبة المحكمة التي تقررها أحكام العدالة الانتقالية الحقة، إذ لا عدالة ولا تسامح الا بعد الاعتراف وطلب المغفرة.
صادق الطائي
القدس العربي