بكل الصدق والصراحة أقولها بلا مواربة: لبنان في متاهة وربما سائر بلاد العرب أيضاً. متاهةٌ تفيض بمفاعيل الجهل والجهالة والطائفية وإهدار حقوق الإنسان، خصوصاُ الحق في الحياة والحرية والكرامة، وافتقاد القيادة الرشيدة، بما هي مسؤولية رعاية المواطنين والنهوض بهم إلى مراتب ضامنة لكرامة العيش، ووفرة الأمن والأمان.
ثمة إفتقاد للدولة بما هي حامية النسيج الاجتماعي وضابطة حكم القانون والعدالة، وثمة استشراء للفوضى والتبعية للخارج، وازدهار لثقافة الفساد بعدما أصبحت طريقة حياة، وذلك في غمرة هجمة كاسرة لجائحة كورونا شلّت الناس والمجتمعات والمؤسسات، وقضت على حياة مئات الآلاف في شتى أرجاء العالم.
في حمأة المتاهة تكشفت أزمة لبنان المزمنة عن حقيقة مربكة: لا دولة فيه، بل نظام للمحاصصّة الطوائفية، تديره منظومة حاكمة قوامها متزعمون في طوائف، ورجال أعمال وأموال متعطشون إلى السلطة، ومتنفذون في أجهزة المخابرات يشاركون أهل النظام مصالحهم وصفقاتهم. أهل النظام الطوائفي الفاسد أعادوا إنتاجه بقوانين انتخابات متعارضة مع الدستور، أفرزت بدورها مجالس نيابية وحكومات ائتلافية مشرذمة وعاقرة، الأمر الذي انعكس سلباً على اقتصادٍ ريعي غير منتج، ومؤسسات عامة خادمة لأهل السلطة ومصالحهم. في غمرة هذه المحنة، يتصارع أهلُ نظامٍ مُترهّلٍ أكرهتهم الانتفاضة الشعبية على القبول بحكومة اختصاصيين غير حزبيين من جهة، وتتنامى من جهة أخرى قوى وطنية تقدمية معارضة لنظام المحاصصّة الطوائفية. لا بد من الإشارة هنا إلى ظاهرةٍ لافتة في تاريخ لبنان المعاصر: اقترانُ نظامه السياسي بنظام الاقتصاد الحر المتفلّت من ايّ رقابة أو ضوابط حكومية، أو أهلية رادعة. والمفارقة أن المبادرات التي توخّت الإصلاح ركّزت في غالبيتها على النظام السياسي، ولم تقارب النظام الاقتصادي، الذي تمتّع دائماً بقدسية حمته من هجمات معارضيه.
في حمأة المتاهة تكشفت أزمة لبنان المزمنة عن حقيقة مربكة: لا دولة فيه، بل نظام للمحاصصّة الطوائفية
نظام اقتصادي هذه مواصفاته وممارساته المتفلّتة من أي رقابة أو محاسبة، كان لا بدّ أن يتصدّع تحت وطأة الديون والخسائر والمخالفات والفضائح، التي تكشّفت أخيراً. اليوم يجد اللبنانيون، مسؤولين ومواطنين، أنفسهم أمام مشهد انهيار اقتصادي ومالي مريع. ازدادت الأزمة الراهنة تفاقماً بعجز المنظومة الحاكمة عن التوافق على أسسٍ ونهجٍ لمقاربة المؤسسات الدولية، ولاسيما صندوق النقد الدولي، بغية الحصول على قروض وتسهيلات مالية تساعد (ربما) البلاد على معالجة الأزمة في مختلف وجوهها وانعكاساتها. وكان الأمر على فداحته ليهون، لولا أن الليبرالية المتوحشة بشخص الرئيس الأمريكي ترامب بادرت، في توقيت مريب، إلى مباشرة تطبيق أحكام «قانون قيصر» الرامي إلى محاصرة سوريا، وفرض عقوبات قاسية عليها، وعلى المتعاملين معها.
لعل لبنان أشد المتضررين من تنفيذ هذا القانون الجائر، لكون سوريا تحيط به من جميع الجهات تقريباً، ولأن شعبيّ البلدين يتبادلان، بوتيرة يومية، مختلف انواع السلع والخدمات والمقايضات، ليس أقلها أن سوريا تزوّد لبنان بنحو 250 ميغاوات من التيار الكهربائي، التي لولاها لعمّت العتمة الكثير من مناطقه. في ضوء هذه المعطيات، تتبدّى أولويتان يقتضي التركيز عليهما في هذه الفترة العصيبة وفي المستقبل المنظور: الأولى اقتصادية ـ اجتماعية، والثانية سياسية ـ اصلاحية.
الأولوية الاقتصادية الاجتماعية تتلخص في مهمتين:
(أ) مواجهة غوائل الفقر والجوع والمرض والبطالة، باتخاذ تدابير كفيلة بتأمين الرغيف (القمح) والدواء والوقود (البنزين والمازوت) والكهرباء. في هذا السياق، يقتضي الانفتاح على سوريا والعراق وإيران وروسيا والصين، لتعزيز مصالح لبنان الاقتصادية، والمشاركة في المكاسب المتأتية عن مشروعات إعادة الإعمار والإنماء في دول المشرق العربي.
(ب) رفض أيّ شروط يطرحها صندوق النقد الدولي، تتعلق بفرض ضرائب إضافية ترهق الطبقات الشعبية، وتترك سعر صرف الدولار للعرض والطلب، ما يؤدي إلى استفحال الغلاء، كما يقتضي رفض اي شروط تنتقص من مبدأ سيادة الشعب على أرضه وموارده، أو من حقه في مقاومة العدو الصهيوني المحتل.
الأولوية السياسية – الاجتماعية تتلخّص في وجوب التسليم بإفلاس نظام المحاصصّة الطوائفية واقتصاده الريعي، ما يستوجب مباشرة ثلاث مهام استراتيجية:
(أ) مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، بإقامة محكمة خاصة لمحاكمة الفاسدين وناهبي المال العام.
(ب) بناء اقتصاد إنتاجي على أسس الزراعة والصناعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
(جـ) تبنّي مشروع قانون القوى الوطنية التقدمية للانتخاب المبني على أسس الدائرة الوطنية الواحدة، والتمثيل النسبي، وخفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة، وتنفيذ المادة 22 من الدستور القاضية، بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف، على أن يتمّ إقراره في استفتاء شعبي عام.
هذه الاولويات والمهام البالغة الاهمية لا يمكن أن ينهض بها أهل نظام المحاصّة الطوائفية، ولا الحكومات والمؤسسات المتفرّعة عنه، ولا كوادر من المعارض الطائفية اليمينية، بما هي توأم المنظومة الحاكمة. ثمة حاجة وطنية استراتيجية إلى تغيير هذا النظام، بشطريه الحاكم والمعارض، سلمياً وديمقراطياً، وفي جوّ من التوافق الوطني العام، بعدما أخفقت كل محاولات التغيير بانقلاب عسكري، أو بعنفٍ أهلي. الانتقال سلمياً إلى النظام النقيض، دولة المواطنة المدنية الديمقراطية، يستوجب اعتماد نهج التوعية والتعبئة بنَفَس طويل، وصولاً إلى توليد ضغط شعبي عارم على أهل النظام ومنظومته الحاكمة، يضطرون معه إلى التسليم بعرض مشروع قانون الانتخاب الديمقراطي سالف الذكر، على استفتاء شعبي لإقراره وإجراء الانتخابات على أساسه. كيف يكون ذلك؟
إذا كان الهدف الأسمى والأهم، تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، فإن النهج المؤدي إلى تحقيقه، كما الآلية المراد اعتمادها في هذا السبيل، يقتضي أن يكونا ديمقراطيين، وأن يراعيا خصائص البيئة الاجتماعية، التي سيصار إلى تطبيقهما فيها. إن نظرةً موضوعية متأنية إلى تركيبة الاجتماع السياسي اللبناني تنبئ بأنه بلد تعدّدي، وأن تعدديته عميقة وواسعة، ذلك أدى إلى نشوء مجموعة كبيرة من الأحزاب والهيئات والتكتلات السياسية، أدّت بدورها إلى تعطيل الديمقراطية بما هي نظام الأكثرية التي تحكم والأقلية التي تعارض. فلا أكثرية ولا أقلية ثابتتان في التجربة اللبنانية، بل مشهدية سياسية فسيفسائية من أحزاب وتيارات وتكتلات تتوالد وتأتلف وتختلف، تتوحّد وتتبدّد باستمرار ما يجعل الاستقرار السياسي وبالتالي العمل الديمقراطي المنتج متعذراً إن لم يكن مستحيلاً. للخروج من هذه المعضلة أرى أن يعتمد قياديو القوى الوطنية التقدمية، ولاسيما المستقلّين منهم، صيغة مؤتمر وطني حاضن لمنتديات وورش عمل اجتماعية، تكفل مراعاة التعددية الاجتماعية من جهة، وبناء كتلة شعبية وازنة وقادرة على تسريع عملية اتخاذ القرارات، وبالتالي تحقيق الإصلاحات المنشودة.
إن عملية بناء مؤتمر وطني في بلد تعددي مهمة شاقة للغاية، تتطلّب نَفَساً طويلاً من الناهضين بها كونها ترمي إلى تأسيس دولة تشكّل، بمجرد قيامها، شرطاً رئيساً لتحقيق الأهداف والإصلاحات سالفة الذكر وأهمها اعتماد صيغة الاستفتاء الشعبي لإقرار قانون انتخاب ديمقراطي متوافق مع أحكام الدستور وكفيل بالانتقال بالبلد سلمياً من نظام المحاصصّة الطوائفية إلى رحاب دولة المواطنة المدنية الديمقراطية. لا يردّ علينا بأن ليس في الدستور نصّ يجيز اعتماد صيغة الاستفتاء الشعبي، لأن ليس في الدستور نصّ يمنع ذلك، فالأصل في الأمور الإباحة، ما لم يّرد مانع شرعي أو اخلاقي، ثم إن الفقرة «د» من مقدمة الدستور تنصّ على أن «الشعب هو مصدر السلطات والسيادة»، فهل لقانونٍ يقرّه مجلس النواب الحالي شرعية ومشروعية أكثر وأقوى من قانونٍ يتمّ إقراره في استفتاء شعبي؟ ثم إن نظرية الظروف الاستثنائية الثابتة والمعمول بها في القانون العام تقضي بأن الظروف الاستثنائية تستوجب اتخاذ تدابير استثنائية، فهل ثمة ظرف استثنائي ساد وعصف بلبنان أكثر من الظرف الاستثنائي الحالي؟ إنها أهداف طموحة، أليس كذلك؟
نعم، هي طموحه بل شديدة الطموح، ولمْ لا؟ أليس تحرير الاوطان والدول وبناؤها يتطلبان أهدافاً طموحة ومناضلين شديدي الشجاعة والطموح؟
عصام نعمان
القدس العربي