ما وقع لبيروت ولسكانها من أسوأ ما حصل لمدينة من حيث حجم الحدث وسرعته والدمار الناتج عن التفجير الاول والثاني وما بينهما. بيروت الجميلة قدمت لكل من تعرف عليها عبر العقود الثقافة والتجارب والألفة والصداقة.
تلك مدينة كانت مزدهرة وكان لديها فرص كبرى، لكن الحروب والنزاعات المحلية والإقليمية والصراع مع إسرائيل والصهيونية عمقوا من جراح لبنان والآم الشعب اللبناني. إن أسوأ ما حصل في ظل الحروب والنزاعات في لبنان بروز طبقة سياسية لم تر الواقع إلا من خلال الحرب الأهلية والحروب المختلفة مع إسرائيل. بيروت المتألمة والجريحة تبدو وكأنها في نهاية مشوار تاريخي وبداية آخر.
من الصعب تقبل فكرة عدم سيطرة حزب الله على جزء من المرفأ. فالحزب لديه سيطرة على المرفأ والمطار والمرافق الحيوية اللبنانية. وقد يكون من المنطقي أن نستنتج بناء على معلومات وتسريبات كثيرة بأن حزب الله وضع على الأغلب موتورات مشغلة للصواريخ في المرفأ، وهو ربما كان يهم بنقلها. لكن بنفس الوقت إن وجود نيترات الأمونيوم في المرفأ جعل الأمر أكثر تعقيدا وخطورة. يبدو أن الكثير من النيترات التي جاءت مع السفينة منذ عدة سنوات تسربت للنظام السوري عبر الخط العسكري المفتوح بين لبنان وسوريا. لهذا فالذي انفجر لم يكن كل الكمية التي انزلتها السفينة عام 2014.
لقد وقع هذا التفجير الأخطر في تاريخ لبنان وتاريخ الشرق لأن إسرائيل وجدت المدخل والثغرة، خاصة وأنها قامت بتنفيذ ضربات شبيهه في كل من سوريا وإيران. هناك أكثر من احتمال يتعلق بما وقع، الاحتمال الاول أن إسرائيل قصفت أكثر من صاروخ موجه خارق للإسمنت مما أدى للانفجارات. لكن هناك احتمالا أن تكون العملية نتاج عبوات ناسفة وضعها الموساد الإسرائيلي في عنابر الميناء. هذا التفجير للميناء عليه كل بصمات إسرائيل والموساد الإسرائيلي.
لكن القول بضربة إسرائيلية لا يعفي الطبقة السياسية اللبنانية وحزب الله من المسؤولية، فمجرد وضع النيترات في الميناء هو تهديد لكل سكان بيروت. بل مجرد وضع أجزاء من صواريخ ليقوم حزب الله بنقلها للجنوب، يعكس حالة الترهل التي أصابت المقاومة وحزب الله. يبدو لي أن هذا من نتائج التحول لسلطة سياسية ولدولة عميقة في لبنان، إضافة إلى أنه من نتائج قرار الحزب في 2011: التدخل في سوريا ضد أماني الشعب السوري.
إن الاعتراف الرسمي اللبناني او اعتراف حزب الله بدور إسرائيل في تفجير ميناء بيروت سيعني الاضطرار للقيام برد على مستوى الحدث، وهذا سيعني حربا مدمرة لكل لبنان، كما أن التحقيق الدولي من جهة أخرى سيؤكد وجود قاعدة في الميناء. لهذا لن يقبل لبنان الرسمي بالتحقيق الدولي. من جهة أخرى لم تتوقع إسرائيل هذا الحجم من الدمار وهذه الكمية من النيترات، وبالتالي شكلت التصريحات الاولى بعد التفجير (لصحيفة هاآرتز الإسرائيلية) والتي أفادت بوجود عملية إسرائيلية أدق تعبير عن ما وقع. إن حجم الدمار جعل إسرائيل تصمت خوفا من المسؤولية الدولية.
إن استمرار بقاء لبنان يتطلب العمل على ازدهاره وتقدمه والاستماع لشعبه، لحماية لبنان سيحتاج لبنان لحكومة مساءلة، ولكهرباء على مدار الساعة، ولبيئة نظيفة، ولمستشفيات فاعلة، كما سيحتاج لمؤسسات ناجحة واقتصاد عادل هدفه المواطن
يحتاج لبنان لعقد سياسي اجتماعي جديد، قابل للتطبيق. بداية يجب أن لا يعود اللبنانيون يوما للنزاع المسلح فيما بينهم. هذا مبدأ يجب الالتزام به تحت كل الظروف. لكن بنفس الوقت أن فشل النخبة السياسية اللبنانية وفشل دور الحزب السياسي في لبنان لا يمكن أن يستمر لأن استمراره سينهي لبنان. لهذا يجب أن يكون التمهيد للعقد الجديد من خلال الاستقالات التي بدأت مع استقالة الحكومة اللبنانية منذ أيام.
العقد اللبناني الجديد يجب أن يشمل تغييرات رئيسية في بنية الجمهورية اللبنانية. إذ لا بد من تعديلات على الدستور اللبناني والنظام الانتخابي اللبناني بما يسمح بتحولات تبتعد عن المحاصصة الطائفية التي لعبت دورها في نشر الفساد والنهب وسوء الإدارة. سيكون لزاما على حزب الله، وهو الطرف الأقوى والدولة العميقة في المعادلة اللبنانية، أن يعيد النظر بدوره على أصعدة كثيرة. سيتطلب ذلك من الحزب، الذي لعب دورا مؤثرا في تاريخ لبنان منذ 1982، ابتعاده عن التحكم بالمعادلة اللبنانية. فبإمكان الحزب أخذ خطوات هامة للوراء في مدى تحكمه بالمعادلة دون أن يخل ذلك بسلاحه وأمنه. إن دور الحزب يجب أن يقتصر على تواجده في جنوب لبنان، دون أن يخل ذلك بأسس التعايش والتوازن لكل اللبنانيين.
في ظل الانفجار المروع تحركت دول بحثا عن دور لها وعن تعبئة الفراغ. فالدور التركي في تصاعد لتعبئة الفراغ الذي تركته المملكة العربية السعودية في لبنان، وهو بالتالي سينافس الدور الفرنسي الصاعد في لبنان، كما ان الدور الإيراني في موقف دفاعي في هذه المرحلة. بل سينظر قطاع من اللبنانيين نحو تركيا بعد أن كانوا دائما يتطلعون للمملكة العربية السعودية. بل بالإمكان الاستنتاج من زيارة الوفد التركي لبيروت بأن لدى الأتراك قبولا من أكثر من طرف لبناني واقليمي ودولي، لكن الدور الفرنسي هو الآخر سيسعى لترك بصماته. يجب أن لا يكون الرهان الأساسي على المشاريع الإقليمية، فالرهان الأهم يجب ان يكون على الشعب اللبناني وإرادته.
لا مخرج للبنان بلا احترام إرادة الشعب اللبناني. فسيناريو الاغتيالات كما حصل للرئيس الحريري وللتيار الذي طالب بالمحاكمة منذ عام 2005 يجب أن لا يتكرر في لبنان. تلك الاغتيالات مسؤولة عن طبيعة التفكك والخوف الذي يسيطر على النخب اللبنانية السياسية. شعب لبنان يحتاج لحماية حدوده من الصهيونية ويحتاج للتصدي لمحاولات إسرائيل بناء شبكات تجسس وغيره. لقد نجح حزب الله على مدى سنوات طويلة، في حماية حدود لبنان وجنوبه، بل كانت حرب 2006 دليلا على تلك القدرات الفائقة، لكن ذلك لا يكفي ولن يكفي. إن استمرار بقاء لبنان يتطلب العمل على ازدهاره وتقدمه والاستماع لشعبه، لحماية لبنان سيحتاج لبنان لحكومة مساءلة، ولكهرباء على مدار الساعة، ولبيئة نظيفة، ولمستشفيات فاعلة، كما سيحتاج لمؤسسات ناجحة واقتصاد عادل هدفه المواطن وحقوقه. لبنان يستحق قيادة تحمل هموم المجتمع وتؤمن بالشراكة معه، كما وتحافظ على ثرواته.
القدس العربي