يبدو العالم أكثر قلقاً من تداعيات انتخابات الرئاسة الأميركية التي ستجرى في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل مقارنة بأي انتخابات أميركية أجريت خلال العقود الأخيرة. ويعود ذلك، حسب خبراء المال والاستراتيجيات الاستثمارية، إلى التباين الكبير في سياسات المرشحين وتداعياتها على أسواق المال والاستقرار السياسي في الولايات المتحدة ومستقبل “النظام العالمي”، خاصة إذا خسر مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن وفاز دونالد ترامب بدورة رئاسية ثانية، إذ إن فوز ترامب قد يقوي النزعة الانعزالية للولايات المتحدة ويزيد من تسريع عجلة تمزيق المنظمات الدولية متعددة الأطراف التي تحكم مسارات المال والاقتصاد والاستقرار السياسي العالمي. على صعيد أسواق المال والاقتصاد، تبدو أوروبا الأكثر قلقاً من احتمال فوز ترامب بسبب مخاوفها من تصعيد الحرب التجارية ورفع الرسوم على بضائعها المصدرة للأسواق الأميركية، بينما تتخوف بريطانيا من احتمال خسارة ترامب بسبب تأجيل مشروع الشراكة التجارية الضخم الذي وعدت به الإدارة الأميركية الحالية والمتوقع أن توضع اللمسات النهائية عليه في شهر إبريل/نيسان المقبل.
ولدى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون تحالف قوي مع الرئيس ترامب وتربط بينهما علاقات صداقة وثيقة. وكانت هذه العلاقات القوية من الركائز التي دفعت جونسون لاتخاذ موقف متصلب تجاه مفاوضات الترتيبات التجارية بريكست، وبالتالي فإن كلا الفريقين، بريطانيا والكتلة الأوروبية، ينتظران ما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية بفارغ الصبر.
في شأن أسواق الاستثمارات، يرى اقتصاديون أن أسواق المال الأوروبية واقتصاداتها ستكون الأكثر تأثراً بنتائج الانتخابات الأميركية من غيرها، لأن نتيجتها ستحدد مسار أوروبا في العالم، وعما إذا كانت سياسة الكتلة الأوروبية وشراكاتها التجارية وأسواقها ستكون متناغمة مع سياسة واشنطن، أو أنها ستختار مساراً مستقلاً لتشكل كتلة ثالثة في الصراع العالمي على تشكيل “النظام العالمي” الجديد الذي من المتوقع أن تبرز معالمه بعد انقشاع ليل جائحة كورونا الحالك الذي يلقي بظلاله حالياً على كل اقتصادات العالم.
في هذا الشأن يقول كبير اقتصاديي مصرف “ساكسو بانك” الاستثماري الدنماركي، ستين جاكوبسين، إن “الانتخابات الأميركية الحالية أكبر خطر سياسي تواجهه الأسواق منذ فترة طويلة”. وتتخوف دول الكتلة الأوروبية على مستقبل صادراتها للسوق الأميركي المهم للانتعاش الاقتصادي، إذ إن الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للكتلة الأوروبية، حسب بيانات المفوضية الأوروبية. ويقدر حجم التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي وأميركا بنحو 384 مليار يورو في العام 2019، كما لديها فائض تجاري كبير مع الولايات المتحدة.
ويهدد ترامب أوروبا بفرض مزيد من الرسوم على بضائعها في حال لم تعالج الفائض التجاري مع بلاده، وهو فائض ضخم يقدر بنحو 153 مليار يورو (نحو 180.3 مليار دولار)، وبالتالي ربما يفرض ترامب بناء على سياسة “أميركا أولاً” شروطاً تجارية واستثمارية قاسية على أوروبا في حال فوزه بدورة ثانية. ويستهدف ترامب شركات السيارات الألمانية، ولديه علاقة متوترة مع ألمانيا، كما يرغب في إجبار أوروبا على اتباع سياسات واشنطن في الطاقة عبر إجبارها على استيراد المزيد من النفط الصخري والغاز الأميركي وتقليل استهلاكها للغاز المستورد من روسيا. وربما يعني فوز ترامب بولاية ثانية المزيد من العراقيل لخط “نورد ستريم 2” الذي يمر تحت بحر البلطيق ويضاعف واردات الغاز الروسي لألمانيا. كما أن فوز جو بايدن سيعني علاقة تجارية متوازنة ومتناغمة مع دول الاتحاد الأوروبي، إذ ينظر بايدن لأوروبا كحليف استراتيجي.
ويرى محللون ماليون أن فوز بايدن سيعني تدفق الاستثمارات الدولارية الضخمة المتكدسة لدى المصارف الأميركية في الأسواق الأوروبية. وتحتاج أوروبا بشدة لهذه الاستثمارات في وقت تعاني فيه من تداعيات الموجة الثانية من جائحة كورونا التي تهدد العديد من اقتصاداتها بجولة إغلاق جديدة.
على الصعيد الآسيوي، يرى خبراء أن فوز جو بايدن سيفيد دولاً مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، لأن سياسات بايدن ستعني الإبقاء على المنظمات الدولية متعددة الأطراف والاحتفاظ بالنظام العالمي مثل منظمة التجارة الدولية ومنظمات الأمم المتحدة واتفاقية باريس للمناخ، كما سيعيد التفاهم مع الكتل الحليفة للولايات المتحدة في آسيا على أسس ثابتة.
أما فوز ترامب فسيفيد أسواق دول مثل الهند وفيتنام والفيليبين وتايوان. إذ إن فوزه سيعني تصعيد الحرب التجارية والتقنية والاستثمارية مع الصين وإجبار الشركات الأميركية على النزوح من السوق الصيني، وبالتالي سيحتاج ترامب إلى حليف كبير في آسيا مثل الهند لمحاصرة التمدد الصيني، إذ إن الهند تتميز بالكثافة السكانية العالية والقوة الشرائية والطبقة الوسطى المدربة التي يمكن أن تعوض الشركات الأميركية عن انسحابها من السوق الصيني.
وكان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، قد وعد الهند بتدفق تريليونات الاستثمارات الأميركية خلال العام الماضي، وذلك في إشارة إلى أن الشركات الأميركية ستحول مقارها واستثماراتها من الصين إلى الهند. كما من المتوقع أن يفيد فوز ترامب كذلك الاقتصاديات الصغيرة في آسيا عبر تحويل جزء من الصناعات الأميركية من الصين لها. وهذه الاقتصادات الصغيرة مثل فيتنام والفيليبين وفيتنام لا تهدد التقنية الأميركية لأنها واقعة مباشرة تحت الحماية العسكرية الأميركية. وبالتالي ستتمكن الشركات الأميركية من الاستثمار والتصنيع من دون مخاطر بسرقة تقنياتها أو إملاء شروط عليها مثلما حدث بالنسبة للشركات لها في الصين.
بناء على هذه المخاطر، فإن أصحاب الثروات ومديري الصناديق الاستثمارية في آسيا ينفذون عمليات تحوط واسعة منذ شهور تحسبًاً لما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الأميركية. ويقول مسح أجرته قناة “سي أن بي سي” الأميركية وسط 30 استراتيجيا من كبار خبراء الاستثمار في آسيا، إن عمليات التحوط في آسيا ضد مخاطر الانتخابات الأميركية تتسارع، وهنالك تركيز على شراء الأصول الآمنة وسندات الخزانة الأميركية بين كبار المستثمرين. وحسب نتائج المسح، فإن 11 من الذين شملهم المسح توقعوا فوز جو بايدن بينما توقع 7 منهم فوز دونالد ترامب. وقال 19 منهم إنهم زادوا من النقد في حساباتهم الدولارية والحسابات المصرفية بالين الياباني.
ويعد الين الياباني من عملات الملاذ الآمن في آسيا. كما لاحظ العديد من الاستراتيجيين، أن هنالك توجهاً متزايداً بين المستثمرين لشراء أسهم شركات المعدات الصحية والأدوية والسلع الاستهلاكية. وهذا التوجه يحكمه المستقبل المجهول الذي يعيشه العالم حالياً تحت وطأة جائحة كورونا التي تعتقل الحركة الاستثمارية.
وفي ذات الشأن، قال 18 استراتيجيا من الذين شملهم المسح حول جاذبية الاستثمار في شركات التقنية، إنهم يفضلون الاستثمار في شركات التقنية الصينية عن الاستثمار في التقنية الأميركية. وقال أحد المستثمرين إن “أسهم شركات التقنية الآسيوية أرخص من نظيرتها الأميركية، كما أن الأميركية أكثر اضطراباً مقارنة بالأسهم الصينية”. وارتفعت أسعار أسهم شركات التقنية خلال العام الجاري إلى أعلى مستوياتها، وربما ستشهد حركة تصحيح قاسية بغض النظر عمن سيفوز بالانتخابات الأميركية. كما توقع 16 من الاستراتيجيين الذين شملهم الاستطلاع أن أسواق آسيا ستحقق أداء أفضل من أسواق المال بعد نهاية مخاطر الانتخابات الأميركية. وهذا التوقع لا يختلف عن توقعات خبراء الاستثمار في الولايات المتحدة الذين يرون أن الركود الأميركي ربما سيستمر حتى منتصف العام المقبل.