صوت مجلس النواب العراقي في ساعة مبكرة من فجر الخميس 12 تشرين الثاني/ نوفمبر، في ظل اعتراض كردي صريح، على مشروع قانون اقتراض جديد، بعد تخفيض مبلغ الدين الذي طلبته الحكومة من 35 مليار دولار إلى 17 مليار دولار، وذلك بعد خمسة أشهر فقط من قانون الاقتراض الأول الذي تقدمت به الحكومة في شهر حزيران/ يونيو الماضي بمبلغ 17.8 مليار دولار. وهذه الأرقام الصادمة تضاف إلى مديونية عامة تزيد عن 134.4 مليار دولار، كما أعلن وزير المالية العراقي (74.4 مليار دولار دين خارجي، و60 مليار دولار دين محلي) ليصل المبلغ الكلي للدين العام إلى ما يزيد عن 169.2 مليار دولار.
وفي الوقت نفسه يتم استنزاف الاحتياطي النقدي للبنك المركزي العراقي «بتواطؤ» جماعي انتهاكا لأحكام المادة 26 من قانونه التي تقرر حظر إقراض الحكومة عبر منحها اعتمادات مباشرة أو غير مباشرة! فقد انخفض هذا الاحتياطي من 68.29 مليار دولار في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2019 إلى 60.94 مليار دولار في آب/ اغسطس 2020 حسب الأرقام الرسمية، وبالتأكيد انخفض هذا الاحتياطي بشكل أكبر خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، مع كل ما يترتب على ذلك من مخاطر تتعلق بالعملة باستقرار العملية العراقية!
وكما في قانون الاقتراض الأول، فقد تم تضمين القانون مواد إضافية تحرص على استقطاع جزء من مبلغ الدين الجديد، من أجل دعم المشاريع الاستثمارية (20٪ من مبلغ الدين) مع الإصرار على استمرار التخصيصات الخاصة بتنمية الأقاليم، اللذين يمثلان المورد الرئيسي للفساد في العراق!
وإذا ما علمنا أن الناتج المحلي الإجمالي للعراق وفقا لأرقام العام 2019 كانت بحدود 234.09 مليار دولار، وفقا لأرقام وزارة التخطيط العراقية، وإن هذا الرقم قد انخفض بما يصل إلى 30٪ في العام 2020؛ بسبب انخفاض أسعار النفط، والتزامات تخفيض الإنتاج بعد اتفاق (أوبك +) والركود الاقتصادي الناتج عن أزمة كوفيد ـ 19، فهذا يعني عمليا أن الناتج المحلي الإجمالي لن يزيد عن 164 مليار دولار لهذا العام على أحسن تقدير، وهو ما يعني عمليا أن الدين العام سيزيد عن نسبة 100٪ من الناتج المحلي الإجمالي (المعيار الدولي هو أن تزيد هذه النسبة عن 60٪)!
في العام 1972، وبعد قرار تأميم النفط، والحرب الاقتصادية التي تعرض لها العراق من شركات النفط ودولها، عجزت الدولة يومها عن توفير رواتب الموظفين، مما اضطرها إلى تشريع قانون قرض الصمود رقم 71 لسنة 1972
عند تمرير قانون الاقتراض الأول في حزيران/ يونيو الماضي، قلنا في مقال بعنوان «عندما يتم إغراق الدولة بالديون في صمت» ان لا أحد في موقع صناعة القرار في العراق حاول استكشاف مخاطر هذا الدين العام الضخم، وأن ثمة نوع من ارتجالية واستسهال في التعامل مع هذا الموضوع من دون أي انتباه إلى التأثيرات المستقبلية لهذه المديونية الضخمة، وان أقصى ما يفعله الجميع هو ترديد خرافة أن العراق دولة غنية، ثم الدعاء بعودة أسعار النفط إلى سابق عهدها من أجل إعادة هذه القروض مع فوائدها!
إن مراجعة جداول الإنفاق المرفقة بالقانون تكشف ان رواتب الموظفين التي تم استخدامها لابتزاز مجلس النواب، عبر تسويق الحكومة لفكرة أنه من دون تمرير القرض لا إمكانية لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين وغيرهم، لا تزيد عن 16.8 مليار دولار، في حين يتضمن الجدول نفقات أخرى يمكن التفاوض على تأجيلها، مثل الأموال الخاصة بعقود التراخيص لشركات النفط الأجنبية، أو المشاريع الاستثمارية، ومستحقات المقاولين. او يمكن ضغطها في سياق سياسة تقشفية، مثل فقرة السلع والخدمات للرئاسات الثلاث والأجهزة الأمنية والصحة وبقية الوزارات.
كما أن مراجعة مواد القانون الجديد الذي تم تمريره تكشف أنه إنما يتعلق بالأشهر الثلاثة الأخيرة حصرا من العام 2020، وحيث انه ليست ثمة مؤشرات حقيقية على إمكانية حصول تحولات كبيرة فيما يتعلق بواردات العراق من مبيعات النفط (تعتمد الموازنة العراقية بنسبة تزيد عن 90٪ على إيرادات تصدير النفط) على الأقل في الأشهر الستة الأولى من العام 2021، وان أكثر التوقعات تفاؤلا تتحدث عن إمكانية ارتفاع أسعار النفط في الربع الثالث من العام 2021 مع احتمالات الوصول إلى لقاح لكوفيد ـ 19 وتأثير ذلك على التعافي الاقتصادي عالميا، وبالتالي زيادة الطلب على النفط، وزيادة أسعاره في الوقت نفسه، فهذا يعني عمليا أننا سنكون حتما أمام قانون ثالث للاقتراض في وقت قريب جدا، مع استخدام الحكومة لسياسة الابتزاز نفسها التي اعتمدتها لتمرير القانون الثاني، وهي التسويق بان عدم تمرير مجلس النواب للقانون ستعني عدم دفع الرواتب لجيش الموظفين الذي يزيد عن 4 ملايين موظف، ولجيش المتقاعدين والمتعاقدين بمختلف تسمياتهم الذي يزيد عن 3 ملايين أخرى! من دون بذل أي جهد لإيجاد بدائل، مؤقتة او مستدامة، لهذا العجز غير الاقتراض.
في العام 1972، وبعد قرار تأميم النفط، والحرب الاقتصادية التي تعرض لها العراق من شركات النفط ودولها، عجزت الدولة يومها عن توفير رواتب الموظفين، على ضآلتها حينها، مما اضطرها إلى تشريع قانون قرض الصمود رقم 71 لسنة 1972، حيث اعطي لوزير المالية صلاحية إصدار «سندات لحاملها» باسم سندات الصمود، وبفائدة 3٪، حيث تم إعطاء الموظفين نصف الر اتب، مع سندات مالية بقيمة 10 دنانير للسند الواحد، كنوع من الادخار الإجباري على يتم استعادة هذه السندات، عبر البنوك الحكومية مع فوائدها المتحققة عن توفر السيولة اللازمة، وهذا ما تم بعد نهاية الأزمة. فلماذا لا تلجأ الحكومة إلى خيار مشابه، أو حلول مبتكرة أخرى، بدلا من هذا الاستسهال في اللجوء إلى الدين الخارجي او المحلي؟
يحيى الكبيسي
القدس العربي