تنصيب بايدن.. فصل حاسم في تاريخ الولايات المتحدة

تنصيب بايدن.. فصل حاسم في تاريخ الولايات المتحدة

يتولى الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن رسميا، الأربعاء، منصب الرئيس السادس والأربعين في تاريخ الولايات المتحدة خلفا للرئيس السابق المثير للجدل دونالد ترامب، ليفتح فصلا حاسما لإصلاح صورة بلده داخليا وخارجيا. وهو يدرك أن المهمة ليست سهلة بالنظر إلى الاعتداءات التي شهدتها أعرق مؤسسة دستورية في الجمهورية، وهو ما دفع السلطات إلى الإعلان عن حالة استنفار أمني قصوى تحسبا لوقوع عمليات إرهابية أو تصادم بين مؤيدي ترامب ومعارضيه.

واشنطن – مع بدء أسبوع تاريخي، كشف معسكر الرئيس المنتخب جو بايدن خارطة طريق لإخراج الولايات المتحدة من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية بالتزامن مع الانتهاء من تعيين فريق إدارته التي ستسهر على تطبيق الأجندة السياسية الخارجية للسنوات الأربع المقبلة، ومن دون أن تلجمه كثيرا إجراءات عزل سلفه دونالد ترامب.

وينصّب بايدن، وهو الرئيس السادس والأربعون في تاريخ الولايات المتحدة، الأربعاء، في عاصمة أميركية تظهر وجها غير مألوف مع تحويلها إلى حصن منيع وانتشار العسكريين في كل الشوارع، ونشر أسلاك شائكة وسياج عال بعد الهجوم على الكابيتول في السادس من يناير الجاري.

ووضع الرئيس الديمقراطي المنتخب مراسم تنصيبه تحت عنوان “وحدة الأميركيين”، وسيحيط نفسه بالرؤساء الأميركيين السابقين باراك أوباما وبيل كلينتون وجورج بوش الابن من أجل مد اليد إلى بلد منقسم وجريح. وسيكون العالم كله مشدودا إلى واشنطن في هذا اليوم، وسط حشود كبيرة من وسائل الإعلام لتوثيق هذا الحدث.

بعد أربع سنوات من ولاية رئاسية عمد ترامب خلالها إلى إثارة الانقسامات بين الأميركيين، أدت الحملة التي شنها الرئيس المنتهية ولايته على نتائج الانتخابات الرئاسية إلى تعميق الهوة أكثر.

ورفض الجمهوري الاعتراف بالهزيمة منددا بعمليات تزوير لم يقدم أي دليل عليها. وحتى وإن فشل في إقناع المحاكم، فإنه نجح في زرع الشكوك في أذهان الملايين من أنصاره الذين شن عدد كبير منهم هجوما على مبنى الكابيتول في السادس من هذا الشهر، ما يعني أن خلفه سيكون أمام تحديات داخلية معقدة لإصلاح ذلك الإرث.

وقد دخل بايدن السباق إلى البيت الأبيض باتهامه دونالد ترامب بتغطية عنف اليمين المتطرف واعدا بشن “معركة من أجل روح” المجتمع الأميركي، ولذلك يرى مراقبون ومؤرخون أميركيون أن على هذا السياسي البالغ من العمر 78 عاما والمخضرم في الجانب السياسي والذي شهدت حياته مآس عائلية، وضع صورته كشخصية جامعة في خدمة بلد يشهد انقسامات كبيرة ويعاني صدمة الهجوم القاتل على الكونغرس.

وبعد محاولتين خائبتين للوصول إلى الرئاسة الأميركية وحملة انتخابية طغى عليها وباء كوفيد – 19، وفوز شابته ادعاءات لا أدلة عليها بحصول تزوير أطلقها منافسه دونالد ترامب، سيحقق جو بايدن الأربعاء حلمه بدخول البيت الأبيض رئيسا هذه المرة. وحجز لنفسه من الآن موقعا في كتب التاريخ على أنه الرجل الذي أسقط دونالد ترامب.

ومنذ إعلان ترشحه في العام 2019 حتى تنصيبه الأربعاء، لم يكف بايدن نائب الرئيس باراك أوباما عن محاولة تجسيد هذه الوحدة واعدا بالعودة إلى الهدوء بعد رئاسة ترامب العاصفة. وهو يتهم الرئيس الجمهوري بأنه “مزق” الشعب الأميركي، إلا أن الانقسامات الكبيرة ازدادت عمقا منذ ذلك الحين.

ويلفت ديفيد فاربر أستاذ التاريخ في جامعة كنساس الأميركية إلى أن الولايات المتحدة لم تعرف أزمة شرعية سياسية كهذه منذ تنصيب أبراهام لنكولن عام 1861، والذي أطلق شرارة الحرب الأهلية الأميركية.

وبعد اتهامه بالتشجيع على أعمال العنف هذه، من المقرر محاكمة ترامب أمام مجلس الشيوخ. ويقول فاربر إن ذلك الأمر سيستهلك الوقت الذي يحتاج إليه جو بايدن لبدء مشاريعه. وأشار إلى أنه إن كان بعض الجمهوريين نأوا بأنفسهم أخيرا عن الملياردير المتهور “فسيبقى قوة صاخبة قد تستمر طوال فترة إدارة بايدن التي لن يسعها الكثير حيال ذلك”.

لكن ذلك ليس كل شيء، فرغم أن المحللين يعتقدون أن بايدن سيركز خلال الأشهر الأولى على معالجة القضايا الداخلية ذات الأولية، إلا أن علاقة الولايات المتحدة بالعالم ستكون الشق المهم بالنسبة إليه لإعادة هيبة أقوى دولة في العالم. وقد قال نهاية الأسبوع لدى تعيين مسؤولين جدد في وزارة الخارجية “الولايات المتحدة أقوى عندما تتعاون مع حلفائها”، داعيا إيّاهم إلى “ترميم القيادة الأخلاقية والعالمية” للولايات المتحدة.

ويردد الرئيس الديمقراطي رسالة القطيعة هذه مع ترامب الذي يرى محللون في مراكز الأبحاث المتخصصة في السياسات الخارجية، وحتى شق كبير من الأميركيين، أنه أساء معاملة حلفائه وتقرب من حكام مستبدّين وكسر الاتفاقات الدولية مبتعدا عن النهج التعددي.

ولذلك اختار بايدن دبلوماسيين متمرسين عملوا في إدارة باراك أوباما، ما يضمن العودة إلى خط تقليدي أكثر في السياسة الخارجية الأميركية، وعلى رأس هؤلاء الدبلوماسي أنتوني بلينكن حيث سيتعين عليه “تصحيح مسار” السياسة الخارجية الأميركية، والذي قال السبت الماضي، إنه يريد أن يجعل الولايات المتحدة “مثالا” لبقية العالم.

سبق لبايدن أن كذّب العديد من التوقعات، ففي ربيع العام الماضي سجل عودة تاريخية في السياسة الأميركية من خلال فوزه الكبير في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.

ومع أن البعض اعتبره متقدما جدا في السن ووسطيا كثيرا، تمكن هذه السياسي المحنك من الفوز بغالبية كبرى في كارولاينا الجنوبية بفضل أصوات الأميركيين السود التي تعد حجر الزاوية لكل ديمقراطي مرشح إلى البيت الأبيض. ومتسلحا بهذا الانتصار، حشد بسرعة تأييد معتدلين آخرين ثم هزم منافسه الرئيسي بيرني ساندرز.

وخلافا للمعركة المريرة والطويلة بين هذا الاشتراكي وهيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في 2016، تمكن بايدن سريعا من جمع التيار اليساري في الحزب مركزا على هدف واحد يتمثل في إلحاق الهزيمة بدونالد ترامب. وتبقى معرفة ما إذا كان بايدن “الموحد” المعتدل سينجح في إبقاء الوحدة بعد دخوله البيت الأبيض.

وقال باراك أوباما إنه حتى لو عرض بايدن البرنامج “الأكثر تقدمية” في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن البعض من اليسار سيعتبرونه فاترا للغاية وهم ينتقدونه عندما يتحدث عن استئناف الحوار مع الجمهوريين.

وكانت المحاولة الثالثة هي الصائبة لهذا السياسي المخضرم، بعد فشل محاولتين للترشح للانتخابات التمهيدية الديمقراطية في 1988 و2008. فخلال محاولته الأولى، اضطر سريعا للانسحاب بعدما تبين أن خطابه تضمن عبارات مسروقة.

وشغل منصب عضو مجلس شيوخ على مدى أكثر من 35 عاما ولغاية 2009، ثم نائب الرئيس منذ ذلك التاريخ وحتى 2017 ما مكنه من التواجد على مدى عقود في أروقة السلطة في واشنطن، وتخللت حياته السياسية الطويلة فصول مثيرة للجدل فضلا عن نجاحات يبرزها اليوم.

ويحظى بايدن بشعبية كبرى في صفوف الأميركيين السود، حيث دعا في بداياته السياسية حين كان نائبا محليا في ويلمنغتون إلى تطوير المساكن الشعبية، ما أثار استياء السكان البيض. وغالبا ما يروي كيف أسست تجربته كمنقذ بحري في حي تقطنه غالبية من السود لعمله السياسي.

لكن ثمة فصول أخرى تلقي بثقلها على مسيرته السياسية، مثل تصويته لصالح الحرب في العراق العام 2003، أو جلسة الاستماع العاصفة برئاسته في مجلس الشيوخ العام 1991. ويضاف إلى ذلك تأييده القوي لـ”قانون الجريمة” لعام 1994 الذي اعتبر مسؤولاً عن ارتفاع كبير في عدد السجناء بينهم نسبة كبيرة من الأميركيين السود.

ويعترف بايدن اليوم بأن ذلك كان “خطأ” مشددا على شق آخر من هذا الإصلاح واسع النطاق يتعلق بقانون مكافحة العنف في حق النساء والذي يشكل “أكبر مصدر فخر” بالنسبة إليه.

 

العرب