تدور الطروحات السياسية الإيرانية منذ ظهور المؤشرات الأولية على فوز بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية في حلقة مفرغة. عدا عن أنها اتسمت بالتقلبات والتناقضات في محاولاتها لوضع جدول أعمالها المرجوّ من قبلها، عبر وسائل الإعلام، على طاولة البحث مع الإدارة الأمريكية الجديدة، قابلها الجانب الأمريكي على مستوياته المختلفة، دبلوماسية وعسكرية وسياسية، بتحديد محكم وصريح للمطالب التي يتوجب على طهران تلبيتها في سياق البحث عن نقاط التقاء مع المجتمع الدولي ومع واشنطن، وبدا حرص أعضاء الإدارة الأمريكية المعنيين بالعلاقات مع إيران ومستقبل هذه العلاقات جلياً لجهة وضع النقاط على الحروف والوضوح التام بشأن كل ما يثير قلق بلادهم وحلفائها إزاء السلوكيات الإيرانية وسياساتها في الإقليم والتهديدات التي تنطوي عليها برامج إنتاجها الصاروخية.
يبدو من سياقات التجاذب الإعلامي، على الأقل كما هو معلن، أن الطرفين يسيران في مسارات متعاكسة حتى الآن، فالتعويم الإيراني لرغباتها وأمنياتها رافقه مظهران ملموسان؛ الأول اعتمد نهج تجنب الإقدام على أي سلوكيات ذات طابع ميداني استفزازي في أي ساحة احتكاك مفترضة مع الأمريكيين بشكل مباشر أو غير مباشر، أما المظهر الثاني فتجلى في السعي الحثيث الذي خاضته الدبلوماسية الإيرانية باتجاه أكثر من عاصمة دولية ومحاكاة بعض الدول الأوروبية المنضوية تحت عباءة الاتفاق النووي السابق، على أمل حشد ما يتاح لها من مواقف إلى جانب طروحاتها عندما تحين ساعة الحوار في حال توفر شروط العودة إليه بين الجانبين الأمريكي والإيراني مستقبلا. ولا يفوت الأخذ بعين الاعتبار فشل الجانب الإيراني في تحقيق أي خرق على صعيد الجبهة الأوروبية أو الدولية مع واشنطن منذ انسحاب الأخيرة من الاتفاق؛ ما حدا بها إلى تلمس خطوط الوصل مع إدارة بايدن قبل فوات الأوان.
أما على الضفة الأمريكية، فقد تمكنت الدبلوماسية الأمريكية، حديثة العهد في البيت الأبيض من فريق بايدن، من رسم ملامح آفاق العلاقات مع إيران بكثير من الرصانة والتماسك والحزم، دالة بذلك على معرفتها الدقيقة بمقتضيات الحوار المأمول وشروطه، وعلى إدراكها لحجم المأزق الإيراني المتنامي الناتج عن انسحاب واشنطن من الاتفاق.
ليس من شك في أن المجتمع الدولي برمته معني ومهتم بتلاقي إرادات الأطراف الدولية حول اتفاق متوازن مستدام يحقق أهداف الجميع، وينزع فتيل التوتر والقلق الذي يخيم على المنطقة، ويصون مصالح كل الأطراف، وهو ما عكسته مواقف عواصم الغرب، خاصة تلك الموقعة على الاتفاق السابق، وبدت متقاطعة مع خارطة واشنطن بشأن إيران، وهي اليوم، أي عواصم الغرب، ورغم إقرارها بالثغرات العديدة في الاتفاق السابق، فإنها تنحو باتجاه بلورة قواسم مشتركة بين الجانبين الإيراني والأمريكي، وصولاً إلى تشكيل أرضية ملائمة للبناء عليها عبر المفاوضات المرجوة لاحقاً دون إسقاط المطالب المتعلقة بوجوب طرح الملفات والقضايا المثيرة للقلق من الجانب الإيراني سواء في سياساتها أو في مشاريع صناعاتها الصاروخية التي تلوح بها في وجه الآخرين، فضلا عن تدخلاتها في الشؤون الداخلية لعدد من دول المنطقة، وكلها قضايا تمس بطريقة أو بأخرى مصالح الطرف الآخر.
بقدر ما يفصح الاندفاع الإيراني، إعلامياً ودبلوماسيا، عن هدف “تحريكي” لملف اتفاقها النووي السابق؛ فإنه يشير إلى حالة الاختناق التي ضربت وتضرب أوصالها الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية التي فتكت ولا تزال تفتك بمنظومتها الاجتماعية وحواضنها وبناها، حيث تراجَعَ حضورُها على المسرحين الدولي والإقليمي على أكثر من صعيد، وباتت في دائرة الاتهامات أنّى توجهت، وتهاوت على الصعيد الداخلي اقتصادياً بعد الانهيار الاقتصادي غير المسبوق، وانعكس ذلك على المجتمع الإيراني بمختلف شرائحه ومستوياته وطبقاته؛ فأعداد العاطلين عن العمل تضاعفت، والقوة الشرائية للفرد الإيراني تراجعت، وخسر النظام بشكل مطرد ما بقي له في صفوف حاضنته الشعبية التي لم تكن بمنأى عن التبعات الكارثية لسياسته، ولم يعد بإمكان نظام الحكم وأركانه المضي قدما في الهروب إلى الأمام، ولم تعد تجدي سياسة الإنكار التي طبعت ووسمت مواقفه حيال ما تتعرض له البلاد والعباد من تحديات وانتكاسات مادية ومعنوية، والسؤال الذي يؤرق كل إيراني بعد هذه المعاناة بات نابعاً من قناعته بأن كرامته وتلبية احتياجاته الطبيعية تتقدم على أولويات الاستعراض والأطماع الخارجية وصناعاتها الصاروخية والعسكرية برمتها بما فيها القطاع النووي، الذي لم يجلب سوى المزيد من القهر له، وكان على حساب مشاريع التنمية والحرية والازدهار التي ينشدها.
مروحة الحسابات الإيرانية واسعة، لكنّ أغلبها ينتمي إلى مرحلة سابقة من التفاهمات مع الأمريكيين والغرب، ومقاربات الغرب الحالية لصيغ التفاهم المحتمل مع طهران لا تخرج عن بوصلة الرؤية الأمريكية الاستراتيجية لموقع إيران ودورها وحدود مصالحها في المنطقة، والأمر لا يتعلق بثنائية العلاقات وحصرها في سياق واحد، بل يتعداه إلى حزمة مطالب مرتبطة عضوياً بمصالح حلفاء واشنطن والغرب لا بد من تلبيتها، لذلك تجد طهران نفسها اليوم أمام تحديات دولية وإقليمية أسهمت في نشوئها سياساتُها وسلوكياتها المقلقة، وقد تقاطعت مصالح الدول الأخرى في الشرق والغرب مع بعضها بحيث أصبحت في سلة واحدة في مواجهتها، وخطابُها حول العودة إلى الاتفاق السابق دون إضافات وتضمينات جديدة لا يجد صدى مقبولاً عند أي طرف، وتناوُبُ مسؤوليها على التلويح بالعودة إلى تخصيب اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي بالتزامن مع تجاربها الصاروخية ومناوراتها العسكرية يصب في خانة الإيحاء بحيازتها ملفات كثيرة يمكن أن تكون من ضمن خياراتها التفاوضية مع واشنطن وغيرها.
الخلل الحاصل في ميزان الجانبين لا يصب في مصلحة طهران، فلا الأمريكيون مستعجلون طالما أن مصالحهم بعيدة عن التهديد بفعل سياستها الردعية الحاسمة، وقد جربت طهران قسوتَها في أكثر من حادثة، علاوة على الأولويات الرئيسية لسياستها الخارجية، ولا الأوروبيون يملكون خيارات التأثير الفعلي لخدمة إيران، وهي تحت سيف العقوبات التي استجلبتها بسبب نهجها وسياستها، وهم أقرب إلى صف الجانب الأمريكي في سياق العمل لبلورة اتفاق جديد، أما لهاث الجانب الإيراني وراء بارقة أمل تأتيه من أروقة الدبلوماسية الأمريكية فيبدو أنه مرشح لأن يبقى أمداً، يطول أو يقصر، تبعاً لاستعدادهم لتلبية شروط ومطالب المجتمع الدولي.
عبدالحميد توفيق
العين الإخباري