كان العقد الثاني من القرن الـ21، عقد التقلبات السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، فقد شهد ثورات الربيع العربي، وكذلك الثورات المضادة للربيع العربي، كما شهد تدهور الأوضاع الاقتصادية للعديد من الدول العربية، سواء كان ذلك بسبب التداعيات السلبية لأزمة انهيار أسعار النفط منتصف 2014، أو الأزمة المزدوجة لانهيار أسعار النفط وجائحة كورونا.
وكان من المظاهر البارزة لتدهور الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، انهيار عملات بعض الدول العربية، وخاصة تلك التي شهدت حراكا شعبيا، سواء في الموجة الأولى أو الثانية، فانهارت عملة مصر والعراق والجزائر ولبنان واليمن والسودان وسوريا.
أسباب الانهيار
مع بداية سيطرة الثورات المضادة في دول الربيع العربي، كان طبيعيا أن تهتز موارد تلك الدول من النقد الأجنبي، وخاصة الدول التي شهدت مواجهات عسكرية. فاليمن مثلا، كان قد توصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل سيطرة الحوثيين على السلطة.
كما أن سوريا فقدت مواردها من السياحة، وكذلك تدفقات العاملين بالخارج، فضلا عن خروج أموال مواطنيها الذين أجبرتهم المواجهات المسلحة على الهجرة للخارج، مما أدى إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية، والضغط على سعر صرف العملة المحلية، وبلا شك أن استمرار النزاعات المسلحة في سوريا، وتواجد قوات أجنبية، أدى إلى عدم الثقة في أوضاعها الاقتصادية بشكل كبير، مما أدى لانهيار عملتها.
وفي لبنان، كانت السياسة النقدية القائمة على الديون الخارجية، واستمرار الدعم الحكومي لبعض السلع الأساسية، مصدر خلل في وضع النقد الأجنبي، مما أدى إلى عجز المصرف المركزي هناك عن سداد التزاماته الخارجية، وانعكس ذلك على وضع المصارف المحلية، مما أدى إلى عدم الوفاء بمسحوبات أصحاب الودائع، ثم انفجر الوضع، في ظل الخلاف بين المصرف المركزي والحكومة حول المسؤول عن الأزمة، وتحرير سعر الصرف، ثم إمكانية الدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وإمكانية تنفيذ مجموعة من الإجراءات التقشفية، والخصخصة، وتحرير سعر الصرف.
السياسة النقدية القائمة على الديون الخارجية في لبنان كانت مصدر خلل في وضع النقد الأجنبي وانعكس ذلك سلبا على الليرة (غيتي إيميجز)
وفي كل من الجزائر والعراق، فإن انهيار أسعار النفط، وكذلك جائحة كورونا، كانتا سببا مهما في نقص الموارد من النقد الأجنبي، في الوقت الذي تعتمد فيه الدولتان على استيراد جزء كبير من احتياجاتهما الأساسية، واستمرار اعتماد اقتصاد الدولتين على الإيرادات النفطية المتناقصة.
فبحسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، انهار احتياطي النقد الأجنبي في الجزائر من 201.4 مليار دولار في نهاية 2013 إلى 71.8 مليار دولار في 2019، وصرّح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بأن رصيد بلاده من احتياطي النقد الأجنبي تراجع في فبراير/شباط 2021 إلى 42 مليار دولار.
وفي العراق، تراجع احتياطي النقد الأجنبي من 77.7 مليار دولار في 2013 إلى 68 مليار دولار في 2019. وفي نهاية فبراير/شباط 2021، أعلن البنك المركزي العراقي أن رصيد احتياطي النقد الأجنبي ارتفع إلى 55 مليار دولار، في ظل تحسن أسعار النفط في السوق الدولية.
أما السودان، فقد أدى التغيير السياسي هناك إلى وجود حكومة يرأسها عبد الله حمدوك -أحد أبناء المؤسسات الدولية- الذي يرى الخروج من أزمة السودان عبر أجندة البنك والصندوق الدوليين، فبدأ تنفيذ سياسة تخفيض الدعم عن السلع الغذائية والوقود، ثم تحرير سعر الصرف، من أجل تهيئة ملف بلاده للدخول في برنامج مع صندوق النقد الد
بمطالعة سجل مكافحة الفساد للدول العربية التي انهارت عملاتها، وجد أن هذه الدول لا تتمتع بالشفافية الكافية، وأنها مصنفة في مراتب متأخرة على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن مؤسسة الشفافية الدولية. فقد حلت كل من سوريا واليمن والسودان ضمن أكثر 10 دول فسادا في العالم على مؤشر عام 2020، ثم أتت العراق في المرتبة 11 بعد الدول الـ10 الأكثر فسادا. وعلى الرغم من تحسن أوضاع الجزائر على مؤشر مدركات الفساد في عام 2020، فإنها لا تزال تحظى بمرتبة متأخرة على مؤشر مدركات الفساد (104 من بين 180 دولة).
وقد عانت كل من الجزائر والعراق من فساد واضح في مجال تهريب العملات الأجنبية للخارج على مدى السنوات الماضية، عبر آلية تزوير فواتير الاستيراد، أو تقاضي عمولات في المناقصات الخاصة باستيراد الاحتياجات الحكومية. ومن الظواهر السلبية التي تعاني منها الدول العربية التي شهدت انهيارا في عملتها مؤخرا، ظاهرة تهريب الأموال للخارج، وخاصة من قبل النافذين من المسؤولين الحكوميين، أو رجال الأعمال الكبار، مما أدى إلى تراجع المعروض من النقد الأجنبي في الأسواق المحلية.
ومن الأهمية بمكان، أن نشير إلى أن هذه الدول صاحبة العملات المنهارة أمام العملات الأجنبية، لديها مشكلات متجذرة تتعلق بخلل في بنى هياكلها الاقتصادية، ما بين الاعتماد على النفط مصدرا رئيسا يقوم عليه الاقتصاد، كما هي الحال في العراق والجزائر واليمن، أو إنتاج السلع الأولية، والاعتماد على تصدير السلع الأولية أو الصناعات التقليدية، أو الموارد الريعية مثل السياحة وتحويلات العاملين بالخارج، مثل السودان ولبنان وسوريا.
آفاق المستقبل
عند الحديث عن مستقبل أداء عملات هذه الدول التي تراجعت قيمة عملتها المحلية، لا بد أن نفرق بين الدول التي تشهد نزاعات مسلحة، والدول الأخرى التي تعتمد على النفط في أدائها الاقتصادي. فالدول التي تشهد نزاعات مسلحة، سوف تستمر عملاتها في التراجع، إلى أن تستقر أمنيا وسياسيا، وحتى إذا ما وصلت لهذه المرحلة، فسيكون أمامها خيار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، والذي تتضمن أجندته تخفيض قيمة العملات المحلية، وتبني خطط للاستدانة الخارجية.
أما الدول النفطية، مثل العراق والجزائر، فسيتحدد موقف عملتها على تحسن أسعار النفط في السوق الدولية، وزيادة مواردها من النقد الأجنبي. وإذا ما حدث سيناريو التفاؤل وزادت أسعار النفط، فقد تحافظ عملات هذه الدول على ما هي عليه، ولا تشهد مزيد من التراجع، ولكنها لن تسترجع موقفها الأفضل أمام الدولار مرة أخرى، بسبب استمرار الفساد في هذه البلاد عند معدلات عالية. ومن ناحية أخرى، فهذه الدول أعلنت عن تبني برامج اقتصادية من شأنها اتباع إجراءات تقشفية، وقد تنتهي بنوع من التأهيل للدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
والأهم من هذا كله، أن تعيد هذه الدول بناء اقتصادياتها، لتكون اقتصاديات إنتاجية، وتكون عملاتها محمية بأداء اقتصادي، يعتمد على مستلزمات الإنتاج، والمنتجات المحلية، كما يساعد على مساهمتها في زيادة الصادرات، وزيادة القيمة المضافة لاقتصادياتها.
وليس من قبيل التقريع أو البكاء على اللبن المسكوب، لكن الدول العربية جميعا، تدفع الآن ثمن تفريطها في مشروع التكامل الاقتصادي العربي الذي انطلق في خمسينيات القرن العشرين، ولكنه للأسف لا يزال مجمدا داخل أروقة مؤسسات العمل العربي المشترك.
لقد كان مشروع إيجاد عملة عربية موحدة، واحدا من أهم مشروعات التكامل الاقتصادي العربي، ولو تحقق، لكان للدول العربية شأن أخر، على الصعيدين: النقدي والاقتصادي.
المصدر : الجزيرة