بلهجة تبّون القوية.. هل تعرقل الذاكرة العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وفرنسا؟

بلهجة تبّون القوية.. هل تعرقل الذاكرة العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وفرنسا؟

في وقت وصفت باريس مؤخرا، على لسان سفيرها لدى الجزائر، فرانسوا غويات أن “العلاقات بين البلدين قوية جدا، لكن وجب العمل على ترقيتها إلى مستوى استثنائي” أشهر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون شرط بلاده بتسوية نهائية لملف الذاكرة.

وفي الذكرى 76 لمجازر 8 مايو/أيار 1945، شدد تبون على أن “جودة العلاقات مع فرنسا لن تتأتّى دون مراعاة التاريخ ومعالجة ملفات الذاكرة، والتي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات”.

وأكد الرئيس الجزائري أن المستقبل الواعد في توطيد وتثمين أواصر العلاقة بين الأمم يجب أن يكون أساسه صلبا خاليا من أي شوائب.

وجاءت رسالة تبون، بعد 24 ساعة فقط من تصريح عمار بلحيمر وزير الاتصال والناطق باسم الحكومة، حول تمسك بلاده بالاعتراف والاعتذار والتعويضات عن جرائم الاستعمار، وهو أول موقف رسمي بهذا الوضوح.

وتأتي النبرة غير المسبوقة تجاه باريس بالتزامن مع تأجيل زيارة رئيس الوزراء الفرنسي، جان كاستيكس، مرتين منذ مطلع العام الجاري، وكانت مخصصة لرئاسة اجتماع اللجنة الحكومية رفيعة المستوى مع نظيره الجزائري عبد العزيز جراد.

شركات تحت الحصار
كما رافق ذلك بروز عدة مؤشرات خلال الأشهر الأخيرة على تعثر العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، من خلال خسارة شركات فرنسية كبيرة مواقعها المتقدمة بالسوق الجزائري.

وكانت البداية عقب اندلاع حراك 22 فبراير/شباط باعتراض الدولة الجزائرية على شراء شركة “توتال” الفرنسية (Total) أصول العملاق الأميركي “أناداركو” (Anadarko) بالجزائر وفق قاعدة “حق الشفعة” المكرس في القانون الوطني للصفقات.

وأعلنت الحكومة نهاية عقد “سيال” (SEAAL) مع أغسطس/آب القادم، وهي أكبر شركة مختلطة جزائرية فرنسية لتسيير المياه والصرف الصحي منذ 2006، وتتهمها السلطات بالعجز عن إدارة القطاع.

كما قررت في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عدم تجديد التعاقد أيضا مع الشركة الفرنسية المكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ تدشينه قبل 10 سنوات.

أما شركة “ألستوم” (Alstom) المتخصصة بصناعة منشآت الترامواي والمترو، والتي أنقذها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة من الإفلاس، بصفقة ضخمة بقيمة ملياري دولار، فقد فتح القضاء الجزائري مؤخرا ملفها بموجب تحقيقات في قضايا فساد.

بالموازاة مع ذلك، سحب البنك المركزي قبل أيام اعتماد فرع “كريدي أغريكول” الفرنسي (Crédit Agricole)، بعد 14 سنة من النشاط في الجزائر.

وبدوره، يواجه مصنع “رينو” (Renault) للسيارات وضعية حرجة بفعل إجراءات تصحيح نشاط مصانع التركيب في ظل شح الموارد المالية للبلاد.

وفتحت هذه المعطيات باب التأويل واسعا أمام مراقبين، حيث ذهب البعض إلى ربط “مضايقة” تلك الشركات الفرنسية في الجزائر بحالة التوتر الدبلوماسي الظاهر بين البلدين، على خلفية الذاكرة ومسائل التاريخ العالقة.

فهل وظفت الجزائر فعلا ورقة الاقتصاد في معركة السياسة؟ أم أن هناك عوامل أخرى وراء وضع الشركاء الفرنسيين؟

حالة تأرجح
يرى الخبير الدولي في الطاقة، بوزيان مهماه، أن العلاقات الرسمية الجزائرية الفرنسية في حالة تأرجح حاليا، كونها خاضعة لعدة تجاذبات، لخصها في العقيدة الوطنية المتعلقة بملف الذاكرة بالنسبة للطرف الجزائري، والسعي لإحداث نوع من التوازن والندّية وتقاسم المصالح، مقابل ضغوطات دوائر داعمة للنفوذ الفرنسي.

وقال للجزيرة نت إن الخلل يتمثل أساسا في مساحة التبادل التجاري، واستمرار فرنسا في ممارستها التقليدية التي ترى من خلالها الجزائر سوقا رائجة لبضائعها ومنفذا استهلاكيا مربحا لها وفقط، في ظل ضعف تدفق الاستثمارات الفرنسية المنتجة للثروة.

وبلغة الأرقام، إذا استثنينا 2020 باعتبارها سنة جائحة كورونا، نجد فرنسا خلال 2019 هي المورد الثاني للجزائر بعد الصين، بصادرات تقارب 6 مليارات دولار، تهيمن عليها مبيعات الحبوب والأدوية والسيارات والوقود، بحسب الخبير مهماه.

وأوضح أن حصة فرنسا السوقية بالجزائر بقيت مستقرة منذ عام 2015 عند حوالي (10%) تتقدم عليها الصين بنسبة (18%) وتلاحقها إيطاليا (8%) وإسبانيا (7%).

وأشار الخبير الدولي -وفق مصادر رسمية- إلى وجود 8 آلاف شركة فرنسية تُصدّر منتجاتها وخدماتها إلى الجزائر، مقابل صادرات جزائرية وصلت عام 2019 إلى 5 مليارات ومئة مليون دولار، لكن 95% منها تتكون من الهيدروكربونات (النفط الخام والغاز الطبيعي وغاز البترول المميع).

لكن لا ينبغي حصر النفوذ الاقتصادي الفرنسي بالجزائر وفق الصورة النمطية لأنشطة شركات محددة، بل يتعين الاستقصاء حول توزع الاستثمار الفرنسي بالجزائر -والكلام للخبير مهماه- حيث سجّل مثلاً صعودًا للخدمات الرقمية عام 2021 لصالح المؤسسات الفرنسية.

ونبّه إلى أن تراجع تدفقات الاستثمار المباشر الفرنسي بالجزائر لم يكن وليد الوضع السياسي المستجد في كلا البلدين، لأن تلك الاستثمارات شهدت تذبذبات حادة خلال الفترة بين 2009-2019.

انغلاق السوق الوطني
من جهته، قال المستشار لدى البنك الدولي، محمد حميدوش، إن وجود الشركات الفرنسية في الجزائر بصفة عامة لا يتأثر بالخطابات السياسية، بل الكثير من مشاكلها تحل بمجرد هاتف أو لقاء دبلوماسي عادي.

وأكد للجزيرة نت أن تراكم الاستثمارات الأجنبية خلال العشرية الأولى للألفية، سواء من حيث المبلغ الإجمالي (4 مليارات دولار)، أو لعدد المشاريع، منحَ المرتبة الأولى للمؤسسات الأوروبية في إسبانيا ثم فرنسا فبلجيكا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا وألمانيا، وتليها الدول الآسيوية مثل تركيا والإمارات وقطر والصين.

لكن عدم الإصلاحات العميقة والقرارات المتناقضة من سنة إلى أخرى -يضيف حميدوش- جعل تلك الاستثمارات الأجنبية تتراجع عام 2020 بنسبة 6% إلى 1.39 مليار دولار، مقارنة بعام 2018.

وخلاصة القول من هذه الأرقام: إذا ركزنا على تراجع وجود المؤسسات الفرنسية بالجزائر قد نجده حقيقة، بما فيما ذلك قطاع المحروقات، ولكن إذا نظرنا إليها من منظور مختلف القارات، فسنجد أن حال باقي المؤسسات، الفرنسية منها بالدرجة الأولى والإسبانية ثم الإيطالية، ليس مختلفا، بسبب انغلاق السوق الوطني.

وأرجع الأمر أيضا إلى أزمة “كوفيد -19” وغلق الحدود وغياب الإصلاحات الاقتصادية، حتى أن شركات آسيوية تركية وأخرى عربية بدأت اللحاق على درب النفور، بحسب تعبيره.

المصدر : الجزيرة