سد النهضة: ما بعد الجلسة الأممية

سد النهضة: ما بعد الجلسة الأممية

بدت إثيوبيا شديدة التعنت في مواقفها حول أعمال “سد النهضة” منذ بداية هذا العام، لدرجة أن بعض سياسييها كانوا يشككون في إلزامية جميع الاتفاقيات المبرمة السابقة المتعلقة بمياه النيل ومدى حجيتها. هذا الموقف جعل التفاوض ومحاولات الوصول لاتفاق غير مجدية، خاصة مع عدم وجود أرضية مشتركة للحوار وتوزيع الحقوق، فحتى اتفاق المبادئ لعام 2015 بدا أنه محل نظر.
لم يكن موقف أديس أبابا المتشدد وليد الصدفة، وسرعان ما ظهر أن ذلك السلوك الذي بدا فوضوياً ومراوغاً كان في حقيقته جزءاً من استراتيجية مدروسة لكسب الوقت، وصولاً لمرحلة الملء الثاني، التي بدأت الشهر الماضي، والتي يمكن القول بعد اكتمالها بالأرقام المعلنة، إن سد النهضة صار واقعاً لا يملك أي طرف معترض إلا التعامل معه أو التماس تقليل مخاطره.
ماذا يعني اكتمال الملء الثاني؟ ببساطة هو يعني انحسار كمية هائلة من المياه خلف السد، أو بمعنى وتعبير آخر: تحول النيل لمجرد بحيرة إثيوبية. يمكن للأطراف غير الراضية أن تتابع تنديدها وتهديدها الرافض لتلك الخطوة “الأحادية” من الجانب الإثيوبي، التي رهنت أحد أهم الأنهار الدولية لرغبة دولة واحدة، لكن هذا للأسف لن يغير الواقع كثيراً فلا شيء يمكن عمله فعلياً من أجل استعادة مياه النيل، ولا تهديد واقعي يمكن تنفيذه. طُلب من مجلس الأمن الدولي أن يناقش هذه القضية وأن يتدخل وقد عقد الأسبوع الماضي جلسة لذلك فعلاً، لكن، وكما كان متوقعاً فإن تلك الجلسة لم تسفر عن شيء يذكر سوى طلبات الانحياز لتحكيم الخيار الدبلوماسي. خطوة اللجوء لمجلس الأمن الدولي كان فيها تأكيد على رغبة مصر والسودان في تدويل القضية وتقديم شكوى رسمية، كما كان فيها تأكيد على رغبة هذه الأطراف في اتباع الحلول السلمية. ما كان واضحاً، حتى من قبل انعقاد الجلسة، هو أن المجلس لا يملك لا الرغبة ولا القدرة الفنية على التدخل، وهو ما عبر عنه في وقت سابق السفير الفرنسي. المنطق الذي حاول المتضررون عرضه على مجلس الأمن، كان يتضمن شرح خطورة مساعي احتكار مياه النيل من قبل الجانب الإثيوبي، ومن دون تنسيق مع دول المصب، التي ترى في ذلك تهديداً لمصالحها المائية وأمنها القومي بدرجة ترقى للتفكير في الدخول في حرب، رفضاً لامتلاك إثيوبيا للسد كسلاح سياسي.

سد النهضة صار واقعاً لا يملك أي طرف معترض إلا التعامل معه أو التماس تقليل مخاطره

هذا المنطق لم ينجح في حث مجلس الأمن على التدخل لتدارك الوصول إلى حرب قد تشعل جميع المنطقة. ما اتضح، على الأقل من خلال البيانات التي أدلت بها الأطراف الدولية الفاعلة، هو أن المجلس يرفض التدخل في هذه المسألة، وهو ما يذكر بوجهة النظر الإثيوبية التي ظلت تعتبر أن المجلس ليس الجهة المناسبة لاستعراض الموضوع أو حله. تبني وجهة النظر الإثيوبية ظهر أيضاً في البيانات الوطنية التي لمسنا فيها ما يشبه التضامن مع إثيوبيا على حساب كل من مصر والسودان. هذا التضامن يجعل من الخيار العسكري خياراً باهظ التكلفة، على صعيد ردود الأفعال الدولية، إذا ما فكر أحد الأطراف في تنفيذه. بكل تأكيد، فإن المجلس لا يعترف بأنه انحاز إلى إثيوبيا متبنياً منطقها، بل يرى خبراؤه أن ما حدث هو أنه أفاد برأيه الفني من خلال خبرته المحدودة في مثل هذه النزاعات المائية، وأنه أي المجلس، لا يملك أي شيء ملموس لفعله من أجل حل هذه الأزمة المعقدة بشكل جذري، ولذا ربما جاءت التوصية المشتركة بالبقاء في البيت الافريقي، وهو ما عبرت عنه مواقف كل من الولايات المتحدة وفرنسا والصين.
الجدير بالذكر هو أن البقاء في الإطار الافريقي، الذي يمثله الاتحاد الافريقي كان أيضاً رغبة إثيوبية، ما جعل أديس أبابا تظهر بمظهر المنتصر، خاصة حين رفض المندوب الروسي حتى فكرة التدخل كوسيط للمساعدة على التفاوض، إلا في حالة موافقة الأطراف المعنية. هكذا انتهى الاستعراض الدبلوماسي، باكتفاء المجلس بحث الأطراف المتنازعة على العودة إلى طاولة التفاوض. الطريف أن هذا الموقف جاء بإجماع الأعضاء، على الرغم من اختلافاتهم المعروفة من الولايات المتحدة التي بدت أكثر تفهماً للحقوق الإثيوبية، إلى روسيا التي رأت أنه يجب وقف أي تهديد باستخدام القوة في إشارة واضحة لمصر. بالتأكيد فإنه كان لكل دولة من دول المجلس مبرراتها التي تجعلها تنأى بنفسها عن اتخاذ أي موقف في مواجهة إثيوبيا، أو يصب في اعتبارها معتدية على غيرها، ولذا شكلت دعوات التفاوض مخرجاً دبلوماسياً مناسباً. المشكلة هي أن التفاوض نفسه بات مصطلحاً غامضاً، لا نعلم إن كان له معنى حقيقي في الوقت الحالي سوى “الطلب” من الجانب الإثيوبي بتوفير حصص كافية من المياه، أو إشراك مصر والسودان في الجوانب الفنية المتعلقة بتدفق المياه من أجل تخفيف حجم الضرر. من جهة أخرى ربما يكون المقصود بالتفاوض في الفترة المقبلة القفز على كل ذلك، والبحث عن شراكات تنموية وأطر بديلة للتعاون.
كل ما سبق يظل وارداً، لأن استئناف التفاوض يعني، بمعنى ما، استئنافه بنظرة جديدة، فبدل الحديث عن انتقاد تحركات إثيوبيا الأحادية، وخرقها للمواثيق والأعراف الدولية الخاصة بتقاسم المياه، وللاتفاقيات الملزمة الخاصة بمياه النيل ستكون المفاوضات الجديدة في الغالب منطلقة من الواقع الحالي، الذي لا يكاد يعترف بأي وضع سابق، والذي يسلّم بتأثر حصص كل من مصر والسودان من مياه النيل.
بعد وقت وجيز، أي بعد اكتمال الملء، سيكون المفاوضون أكثر حرصاً على سلامة السد، وسيتلاشى الحديث عن ضرب السد أو عن الأعمال العسكرية، بل ربما تعتمد إثيوبيا على السودان ومصر كحماة للسد، لأن تعرضه لأي ضربة أو خروجه عن السيطرة لأي سبب، يعني بشكل أولي جرف هاتين الدولتين بشكل فعلي.
من الملاحظ وجود إجماع بين المصريين على تأثر بلادهم السالب من مشروع السد الذي سيؤدي، وفق كثير من الدراسات، إلى ضمور كبير في الأراضي الزراعية، وارتفاع في نسب البطالة، وانخفاض حاد في الدخل. هذا الإجماع يقابله تشويش كبير لدى الجانب السوداني، أما الخبراء هناك فيزيدون الأمر تعقيداً بانقسامهم بين من يرى أن تأثر السودان بهذا النقص في الحصص سيكون أكبر من تأثر مصر، التي تمتلك احتياطات السد العالي، ومن يرى، على العكس من ذلك، أن السد سيكون شديد الفائدة للسودانيين، بما سيوفره من استقرار مائي وتقليل للطمي وزراعة لفترات ممتدة أطول، بل يذهب البعض للقول إن السد الإثيوبي سيحل مشكلة انقطاع الكهرباء في السودان بشكل نهائي. هذا الانقسام أدى لوجود نظرات مختلفة للمسألة، هذا غير النظرة التي ينطلق منها بعض المتعاطفين مع إثيوبيا، أو الذين لا يريدون، لأسباب استراتيجية أو شخصية، خسارة العلاقة معها.
التطورات الأخيرة لا يمكن فصلها عن الغليان السياسي الداخلي في إثيوبيا، الذي لم يخففه فوز “الازدهار” في الانتخابات، وكما قلنا في مقال سابق، فإن أبي أحمد كان ينتظر أن يقود “التصعيد التفاوضي” إلى إحدى نتيجتين وهما: إما أن ينتصر في إكمال السد بالشروط التي يريدها، أو أن يدخل في حرب بسبب ذلك، وفي الحالتين فإنه كان سيربح ويستعيد شعبيته.

د. مدى الفاتح

القدس العربي