حقق حزب “العمل والتضامن”، الذي أسسته الرئيسة المولدافية مايا ساندو، المعروفة بتوجهاتها للتقارب مع الغرب، فوزاً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي جرت أول من أمس الأحد. وجاء الفوز الانتخابي على حساب كتلة الاشتراكيين والشيوعيين، التحالف الذي ضمّ رئيسين سابقين حظيا بدعم كبير من روسيا، إيغور دودون وفلاديمير فورونين. وفاقت النتائج توقعات أكثر الاستطلاعات تفاؤلاً لساندو، تحديداً بحصولها على أكثر من نصف مقاعد البرلمان، ونجحت في تحقيق نتيجة هي الأفضل لحزب منفرد، منذ فوز الحزب الشيوعي المولدافي في انتخابات عام 2001، حين نال 50.07 في المائة من الأصوات. وتسمح هذه النتائج لرئيسة الجمهورية، المؤيدة للتقارب مع الاتحاد الأوروبي ومحاربة الفساد، بتشكيل حكومة تستطيع تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية، في واحد من أفقر بلدان أوروبا، والذي يعاني بشدّة لوقوعه على خط الصراع بين روسيا والغرب، بالإضافة إلى سيطرة رجال الأعمال الفاسدين على الحياة السياسية في البلاد. وفي تفاصيل النتائج، أعلنت لجنة الانتخابات المركزية في كيشيناو أن نسبة المشاركة بلغت 48 في المائة، وأفادت بتقدم حزب “العمل والتضامن” بنحو 52.72 في المائة، بعد فرز 99.95 في المائة من البطاقات الانتخابية، في حين لم يحصل تحالف الشيوعيين والاشتراكيين الذي شكّله الرئيسان السابقان إيغور دودون وفلاديمير فورونين إلا على 27.36 في المائة. وحصل حزب “شور”، الذي يضمّ مزيجاً من القوميين والمحافظين، على 5.78 في المائة. مع العلم أن مؤسس الحزب، رجل الأعمال إيلان شور، متهم بفضيحة فساد كبرى فرّ على إثرها إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي. في المقابل، لم يستطع 17 حزباً وتحالفاً انتخابياً الحصول على الأصوات اللازمة لتجاوز عتبة دخول البرلمان. وتختلف العتبة الانتخابية في كيشيناو باختلاف أنواع الترشيح: بالنسبة للأحزاب أو الكيانات التي تترشح بصورة فردية، فإنها تحتاج إلى بلوغ عتبة 5 في المائة. أما الكتلة الانتخابية المكوّنة من تحالف حزبين (أو كيانين) أو أكثر، فإن العتبة تبلغ 7 في المائة، بينما يكفي كل مرشح مستقل الوصول إلى عتبة 2 في المائة لدخول البرلمان.
اقترع 86% من مغتربي مولدافيا لمصلحة حزب “العمل والتضامن”
ولم يكن ناخبو الداخل داعمين لساندو فحسب، بل عزز المصوّتون في الخارج، الذين يشكّلون نحو ثلث أعداد الناخبين، نسبة الفوز، واختار قرابة 86 في المائة منهم حزب “العمل والتضامن” لقيادة المرحلة المقبلة. وبعد دورهم اللافت في دعم ساندو في الانتخابات الرئاسية الماضية، التي جرت على دورتين في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 و15 منه، كان لافتاً ازياد تأثير أصوات مواطني مولدافيا في الخارج، الذين اضطروا إلى مغادرة بلادهم بحثاً عن فرص العمل وتحسين حياتهم. وحسب البيانات الرسمية، فقد غادر مولدافيا منذ استقلالها (عام 1991 عن الاتحاد السوفييتي) قرابة ثلث المواطنين القادرين على العمل إلى روسيا والبلدان الأوروبية. وذكرت لجنة الانتخابات أن نسبة المشاركين في الخارج بلغت قرابة 14 في المائة من عدد المصوتين في الانتخابات الحالية، في ارتفاع كبير من 1 في المائة في 2005، و4 في المائة في 2015، على التوالي. وهذه المرة الأولى منذ عام 2001 التي يتمكن فيها حزب واحد من السيطرة على منصبي الرئاسة والحكومة. ومع هزيمة الشيوعيين والاشتراكيين، فإن السلطة ستنتقل بالكامل إلى حزب يؤمن بالتقارب مع الاتحاد الأوروبي، الذي أظهرت النتائج أنه حصل على أصوات ناخبين يؤيدون التقارب مع روسيا، لكنهم اختاروا ساندو وحزبها، أملاً في إنهاء الفساد المستشري في البلاد، وهيمنة رجال المال على الحكومة والسلطات التشريعية والقضاء. ودفعت هذه التحولات، الرئيس السابق إيغور دودون، إلى تهنئة ساندو، لكنه أعرب في الوقت نفسه عن أسفه لأن “فترة العلاقات الجيدة (مع روسيا) التي كانت لدينا على مدى السنوات الأربع الماضية قد ولّت”. وأبدى أمله في أن “تكون الرئيسة الحالية والبرلمان الذي يدعمها، أذكياء بما يكفي، من أجل عدم الدفع بالأوضاع مع الاتحاد الروسي إلى الحال الذي نشأ في عامي 2014 و2015، حين فقدنا عملياً أسواق منتجاتنا وطردنا الدبلوماسيين الروس من كيشيناو”. وفاجأ الفوز الكبير لـ”العمل والتضامن” مراقبين وخبراء، وحتى أعضاء الحزب ذاته. وفي تصريح لصحيفة “كوميرسانت”، قال عضو الحزب الفائز ميهاي يوبوشي: “كنت أتوقع أغلبية، لكنني لم أتصور حصولنا على أغلبية دستورية”. واعتبر أن النصر تحقق بأصوات الناخبين داخل البلاد، وعززه التصويت في الخارج.
تقارير دولية
تصعيد الضغط على مولدافيا: الجنسية الروسية لسكان بريدنيستروفيا
وتعهدت ساندو بمحاربة “سرطان الفساد” في مؤسسات الدولة، خصوصاً في أجهزة الأمن والنيابة والمحاكم، معلنة أنه سيتم البدء بتنفيذ برامج للتقليل من الفقر، في بلد لا تتجاوز حصة الفرد فيه من الناتج المحلي 4555 دولاراً في السنة، أي أقل بثلاث مرات مقارنة برومانيا، الجارة الأقرب إثنياً ولغوياً. وتعمقت مشكلات البلاد مع تراجع القوى العاملة في البلاد إلى نحو 970 ألف شخص، بسبب هجرة أكثر من مليون شخص قادر على العمل إلى روسيا والاتحاد الأوروبي. وتعهّدت ساندو بالإيفاء بوعودها الانتخابية، وكتبت على صفتها في “فيسبوك”: “أعدكم بأنني سأفعل كل ما في وسعي في السنوات المقبلة لتسهيل حياة الناس وتصويتهم، من دون ضغوط وفساد. وآمل أن أتمكن من العمل مع أغلبية برلمانية من الشرفاء، لجعل يوم الانتخابات يوما ديمقراطيا لكل مواطن”. وعملت ساندو خبيرة في البنك الدولي في واشنطن بين عامي 2010 و2012، قبل أن تعود إلى بلادها. وشغلت منصب وزيرة التعليم بين عامي 2012 و2015. وبين شهري يوليو/تموز 2019 ونوفمبر/تشرين الثاني من العام عينه، كانت ساندو رئيسة للوزراء. كما أسست في عام 2015 الحركة السياسية الموالية لأوروبا “قم بخطوة مع مايا ساندو”، التي تحولت في عام 2016 إلى حزب “العمل والتضامن”. وقررت ساندو، مطلع العام الحالي، إجراء الانتخابات المبكرة، التي كانت مقررة أساساً في عام 2023، بعدما وجدت نفسها عاجزة عن تنفيذ وعودها وسياساتها، نظراً لعدم وجود أغلبية برلمانية داعمة لها، في بلد تتقاسم فيه الحكومة المدعومة برلمانياً السلطة مع الرئيس المنتخب بشكل مباشر. ومع فوز المعسكر الغربي في كيشيناو، يكون الكرملين قد تلقى ثالث ضربة قوية في أقل من ثلاث سنوات، نتيجة “ثورة الصناديق الانتخابية”، وليس عبر “ثورات ملونة” في الشارع. في أرمينيا، استغل الصحافي المعارض نيكول باشينيان الحراك في الشارع ليفوز في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2018، متغلباً على أنصار روسيا. وثبّت نصره في الانتخابات المبكرة التي جرت في يريفان في 20 يونيو/حزيران الماضي، رغم الهزيمة العسكرية ضد أذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ، في خريف العام الماضي. وفي أوكرانيا، استغل فولوديمير زيلينسكي شعبيته ممثلاً في مسلسل “خادم الشعب”، فشكّل حزباً حمل الاسم نفسه، وفاز بموجبه في رئاسيات أوكرانيا عام 2019. وجاءت ساندو الفائزة برئاسيات 2020 لتكمل سلسلة من التغيرات “غير السارة” لسياسات الكرملين.
تلقى الكرملين ثالث ضربة قوية في أقل من ثلاث سنوات، نتيجة “ثورة الصناديق الانتخابية”
ويرى خبراء أن انتصار حزب ساندو يعد هزيمة كبرى لصورة موسكو، التي دعمت التحالف بين الحزب الاشتراكي والشيوعيين بقيادة دودون وفورونين. مع العلم أن دودون فاز برئاسيات 2016، ولكنه لم يستطع عملياً حكم البلاد، لعدم حصوله على أغلبية برلمانية، وبالتالي لم يستطع تشكيل حكومة لتنفيذ سياساته. في المقابل، استطاع فورونين حكم البلاد بين عامي 2001 و2008، حين كان الحزب الشيوعي حاصلاً على أغلبية دستورية. ويبدو أن التحالف “الاضطراري” أو المدفوع برغبة روسية بين دودون وفورونين، لم يفلح في تحقيق أي إنجاز جديد، رغم أن السياسيين المواليين لروسيا توقفا عن الهجمات الإعلامية المتبادلة منذ شهر مايو/أيار الماضي. مع العلم أن الرجلين تبادلا الإهانات الشخصية في السنوات الأخيرة، وكان فورونين يستخدم صفة “خائن” عند الحديث عن دودون، الذي كان يصفه بـ”العجوز الكاذب الخرف”. ولا يشكل فوز ساندو بأغلبية دستورية حلاً سحرياً لمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة تعيشها مولدافيا. سياسياً، يُمكن أن تحظى ساندو بدعم سياسي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ولكن هذا الدعم يمكن أن يثير حفيظة روسيا. أما اقتصادياً، فتحتاج مولدافيا إلى مليارات الدولارات من أجل تحديث البنى التحتية والاقتصادية، في بلد محدود الموارد، ويعيش نحو 23 في المائة من سكانه تحت خط الفقر. وفي ظل الأزمة الاقتصادية بسبب تداعيات وباء كورونا، تبدو حظوظ حصول ساندو على مساعدات كافية للنهوض بالبلاد وتحقيق برنامجها ضئيلة جداً، في ظلّ حاجتها أولاً إلى محاربة الفساد الإداري المستشري، والذي يحرمها من نحو 13 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي.
العربي الجديد