بالعودة إلى أيام الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) نجد أن صدام حسين لجأ إلى “الشرعية” القومية العربية فاستخدمها سلاحا ضد أعدائه الإيرانيين وأنصارهم العراقيين، طمعا في استنفار الجماهير العربية لدعمه، واختار لنفسه صورة البطل القومي العربي المدافع عن البوابة الشرقية للوطن العربي، ثم أطلق على حربه مع الخميني اسم “القادسية” لتذكير العرب بانتصارهم القومي التاريخي على أعدائهم الفرس، ولتذكير الفرس بهزيمة أجدادهم واحتلال بلادهم عدة قرون.
بالمقابل اختار الإيرانيون “مظلومية” الشيعة وجعلوا منها شرعية مقابلة لشرعية صدام، واستخدموها سلاحا فاعلا في المعركة، ظنا منهم أنها الأقدر على تجييش العراقيين والعرب الشيعة لإسقاط النظام البعثي (الكافر) واحتلال العراق، والزحف منه إلى باقي دول المنطقة لإقامة دولة العدل الإلهي التي ستعجّل بظهور الإمام المهدي.
ومن مفارقات تلك الحرب الطويلة المهلكة أنّ عراقيين شيعة بمئات الآلاف خاضوا تلك الحرب مع (السني) صدام حسين ضد عدوه (الشيعي) الخميني، مدفوعين بالعصبية القومية العربية.
وبالمقابل كان هناك عراقيون كثيرون، أيضا، تطوعوا في صفوف جيوش الخميني لمقاتلة بلادهم وجيشهم مشحونين بالعصبية المذهبية، فقَتلوا وأسروا جنودا وضباطا عراقيين من أبناء طائفتهم التي يحاربون باسم مظلوميتها، ومنهم هادي العامري وأبومهدي المهندس وآل الحكيم.
وقد أدلى عراقيون شيعة كثيرون كانوا أسرى لدى أشقائهم في العقيدة في إيران، ومنهم سياسيون بارزون، بقصص وحكايات مريرة عن إهانات وشتائم وحملات تعذيب وتجويع تعرضوا لها على أيدي أشقائهم العراقيين.
كما أن المعاملة غير الإنسانية وغير الدينية وغير الأخلاقية لم تكن من نصيب الذين أُسروا وهم يقاتلون الجيش الإيراني، وحسب، بل إنها طالت العراقيين العرب الشيعة الموالين لإيران أيضا.
يقول عزت الشابندر في شهادة على شاشة تلفزيون الطليعة في ديسمبر 2019 “عشتُ في إيران سنة ونصف السنة، وكنا ذاهبين لنقاتل مع إيران ضد بلدنا العراق، أحيانا نحتاج إلى استخراج هوية أو موافقة على سفر فنذهب إلى دائرة في رئاسة الوزراء الإيرانية فنلقى إهانات، ونطرد. وتف عربا”.
ورغم انتهاء تلك الحرب في العام 1988 إلا أنها استمرت وكانت أساسا للمعارك المذهبية والقومية العنصرية المستمرة إلى اليوم، وقد تستمر لأجيال عديدة قادمة.
والذي يهمنا في هذه المقالة من تلك الحرب هو الجانب الإعلامي منها. فقد تنبه صدام حسين لتجربة جمال عبدالناصر في استخدام قوة سلاح الكلمة والأغنية، فأغدق، بلا حدود، على الجرائد والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزيون ومعارض الرسم والنحت والمهرجانات والاحتفالات التي لم يكن فعلها بأقل من صواريخ الحسين والعباس.
وبعد سقوط نظام صدام، بتحالف جيوش الغزو الأميركي مع النظام الإيراني، هيمنت دولة الولي الفقيه وحلفاؤها العراقيون على السلطة في العراق، فتحولت المظلومية من شيعية إلى سنية، وأجاز الحكّامُ الجدد لأنفسهم الانتقام من كل عراقي كان له دورٌ في منع الخميني من احتلال العراق، ضباطا وجنودا وأطباء ومهندسين ومفكرين.
ومن صدام حسين تعلم الإيرانيون أهمية توظيف الكلمة المقاتلة في شرعنة احتلالهم، وتبرير وجود ميليشياتهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي السعي من أجل تثبيت الهلال الشيعي الذي يربط طهران بشواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، فبالغوا في الإنفاق على تطويرها وتنويعها، معتمدين على الخطاب الديني الطائفي العاطفي والأقدر على تثوير النعرة المذهبية لدى شيعة العراق والعرب، واتخذوا من الحسينيات وخطب الجمعة ومواكب العزاء وزيارات العتبات المقدسة جيوشا إعلامية مؤثرة.
ومع تطور تكنولوجيا الاتصالات وظهور الأقمار الاصطناعية القادرة على حمل المئات من محطات الإذاعة والتلفزيون أضافت إيران وأحزابها وميليشياتها مواقع الإنترنت إلى أسلحتها ثم نقلت حروبها إلى السماء.
فأصبح المشاهد العربي محاصرا بالعشرات من الفضائيات الشيعية المتفرغة لاستعادة قصص التاريخ القديم الحقيقية منها والملفقة المختلَقة، وحتى الخرافة، خدمة لمخططات النظام الإيراني التوسعية العنصرية المغلفة بالجهاد الإسلامي.
فهناك 73 قناة فضائية تموّلها إيران والميليشيات العراقية واللبنانية، منها قنوات: أم البنين، المعارف، البينة، الطليعة، النعيم، الأنوار، الإمام علي، الكوثر، الأنوار2، الإمام الصادق، الإمام الحسين، كربلاء، القمر، صوت العترة، العقيلة. والقنوات السنية: الناس، المجد، الرسالة، اقرأ، العفاسي، الرحمة، الفتح، الندى، على القمر المصري نيل سات. وعلى القمر الإسرائيلي قنوات: الإمام علي، الكوثر، الأنوار، الإمام، العالم، الميادين.
وكان منتظرا من إدارات الأقمار الاصطناعية العربية التي تسمح ببثّ تلك الفضائيات أن تبادر إلى غربلة هذه الفضائيات، وحجب ما يستوجب الحجب منها لحماية المشاهد العربي من سمومها. ولكنها لم تفعل شيئا يذكر في هذا الخصوص.
مناسبة هذا الكلام إقدام الولايات المتحدة في خطوة مفاجئة، على مصادرة 33 موقعا إلكترونيا تُدار من قِبل اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية الإيرانية، بينها 3 مواقع يستخدمها فصيل كتائب حزب الله العراقي المدعوم من إيران.
كما مَنعت الوصول إلى مواقع محطات أخرى داخل العراق أبرزها قناة “الفرات” التابعة لعمار الحكيم، وقناة “آسيا” التابعة لرئيس حزب المؤتمر العراقي، آراس حبيب، المدرج أصلا على قائمة الإرهاب الأميركية، وقناة “آفاق” العائدة لنوري المالكي، وفضائيات شيعية أخرى.
أما المواقع الإيرانية التي تم إغلاقها فهي “العالم” و”المسيرة” التابعة للميليشيات الحوثية، و”اللؤلؤة” و”الكوثر” و”فلسطين اليوم” و”النبأ”، وغيرها.
في حين أن إدارتي القمر المصري، نايل سات، وقمر جامعة الدول العربية، عرب سات، تحتضنان أغلب هذه القنوات الطائفية العنصرية المتطرفة التي تمارس، بخطابها وبرامجها وبأشخاصها المتطرفين المتعصبين، أخطر أدوار التجهيل والتضليل ونشر الخرافة وإيقاظ الفتن النائمة.
فهل تحذوان حذو أميركا فتقرران حماية مشاهديهما من هذه الفضائيات الأخطر على المجتمع العربي من زرع المتفجرات، والقتل على الهوية، وتهريب المخدرات؟
ابراهيم الزبيدي
العرب