تساؤلات التجديد الديني في الفكر أو الخطاب شكلت محاور كتاب الباحث نبيل عبدالفتاح “تجديد الفكر الديني” الصادر أخيرا والذي أكد فيه أن سؤال التجديد الديني أصبح خطابا سلطويا، ولم يعد جزءا مركزيا من الهموم الفكرية للجماعات الثقافية أو المؤسسة الدينية الرسمية.
ارتبطت تساؤلات تجديد الفكر والخطاب الدينيين بالتغيرات السياسية التي تمّت في المنطقة، بعد فشل الانتفاضات الثورية العربية، ومعها جماعات الإسلام السياسي في السلطة، عبر الآليات الانتخابية؛ للعديد من الأسباب، بعضها يتصل بالبنية الفكرية والأيديولوجية لهذه الجماعات. هذه التساؤلات طالت جمود الفكر والخطابات الدينية والإفتائية لاسيما في ظل انفجارات العنف والتطرف والتطرف العنيف وأنماط العنف والإرهاب المختلفة، وإعادة إنتاج وتدوير أبنية فقهية وتأويلية وتفسيرية وإفتائية داخل المذاهب والمدارس الفقهية والكلامية التأسيسية.
وعمد الباحث نبيل عبدالفتاح في كتابه “تجديد الفكر الديني” إلى تناول الأصول التاريخية والسياقية لطرح مسألة التجديد والإصلاح الديني وأسبابها وتطوراتها، وإبراز ماهية المتغيرات التي شملت الدعوة القديمة الجديد، طارحا العديد من الأسئلة والملاحظات وساعيا لتأصيل بعض جوانب مسألة التجديد في الفكر الإسلامي، حيث يتناول في بابين ـ يضمان خمسة عشر فصلا ـ تشريح المسألة الدينية المصرية. وفي أربعة أبواب ضمت تسعة فصول تناول في إحداها وثيقة الأزهر أسبابها وسياقاتها ومكوّناتها، وفي الثاني قضايا السياسة التربوية والسياسة الدينية والوقاية من التطرف، وفي الثالث الثقافة المصرية في مواجهة ثقافة التطرف والعنف والإرهاب، وأخيرا مشكلات الفكر الديني والوضعي المعاصر: الأزمات ومظاهرها وتوتراتها وانفجاراتها وشظاياها.
التطرف أنواع
ويرى عبدالفتاح أن ثمّة تعريفات كثيرة للتطرف، وتختلف بحسب النظرة إلى ظواهره، والتخصص الذي ينطلق منه بعض الباحثين، ناهيك عن بعض العمومية والغموض اللذين يعتريان غالب هذه التعريفات على تعددها. ثمة نزعة شائعة إعلاميا ورسميا تركّز على المنظمات السياسية الدينية ذات الخطابات الأيديولوجية الراديكالية والسلوكيات العنيفة الإرهابية، وبعض أيديولوجيا التكفير الديني والتفسيق.. إلخ.. ويشيع هذا الفهم للتطرف وسط بعض النخب السياسية الحاكمة وأجهزة الدولة الأيديولوجية والأمنية والحزبية.
من الصعوبة بمكان أن يشهد التفكير الديني تجديدا في ظل هيمنة التسلط السياسي أو القيود على حريات الفكر والإبداع
ويؤكد أن التطرف لا يقتصر فقط على أشكاله السياسية والسلوكية العنيفة، بل ثمة تطرف اجتماعي يتسم بالتغير في أشكاله ومضامينه التي قد تتصادم مع أنماط السلوك والقيم وأساليب التفكير السائد في المجتمع في مرحلة تاريخية محددة. بعض هذا الفكر والسلوك المتطرف قد يتصادم مع موروث جماعة مّا، أو مكوّن مّا من مكونات المجتمع العرقية والدينية والمذهبية أو القومية أو اللغوية أو.. إلخ، من هنا نحن أمام مفهوم فضفاض ومفرط في غموضه وفي تحديده، إزاء ما يطلق عليه التيار السائد على المستويات القيمية والمعيارية والفكرية والمعتقدية والسلوكية. وأيّا ما كان أمر هذا الغموض المفاهيمي يمكن القول مع بعض الباحثين إن “المتطرف ـ فردا أو مجموعة ـ لديه قناعة ببعض المعتقدات التي تشكل طاقته الدافعة للتطرف والعنف والإرهاب، وهي مجموعة المبادئ والقيم والأفكار التي استوعبها المتطرف وتنحرف عن التوجه العام لمضامين الثقافة ومنظومة القيم في المجتمع”.
ويلفت عبدالفتاح إلى أن بعض أشكال التطرف الظاهري قد يتمثل في رفض نظام الزي الذي يعبّر عن الاختلاف بين الأجيال، ويبدو مغايرا لأنماط الزي وشكل تصفيف الشعر، وهو ما يبدو لدى الأجيال الأكبر سنا، يمثل تطرفا أو أمرا غريبا وبعضه قد يشكل مظهرا وسلوكا ينطوي على تهديد، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك صحيحا أم لا. ويضيف “خذ مثلا بعض الرقصات الجماعية، والموسيقى الصاخبة المستعارة من بعض الطرق والجماعات الغربية كموسيقى ‘الميتاليك’ أو ‘الراب’، أو القرع على البراميل، وقد يطلق بعض الإعلام على بعضهم أنهم عبدة الشيطان، من خلال ارتداء زيّ ذي لون موحد؛ أسود مثلا، ويختارون مكانا ما كما حدث في مصر مرارا وأدى إلى القبض عليهم، ثم الإفراج عنهم”.
الجمود الفكري يعيق التغيير
ويتابع “بعض أشكال التطرف السياسي تحددها طبيعة النظام السياسي ونخبته الحاكمة، لاسيما في ظل نمط الدولة والحكم الشمولي أو التسلطي، حيث يعد كل طلب سياسي واجتماعي ـ إن وجد ـ للتغيير خارج إطار النظام وحدوده وقواعده ‘الدستور والقوانين والأحزاب ـ إن وجدت ـ أو الحزب الواحد’ ـ يعد تطرفا وإرهابا. وتتسع دائرة مفهوم التطرف لتشمل مجموعات من الأفكار والسلوكيات والمنظمات والجماعات السياسية والدينية. والتطرف الديني يشمل أيّا من منظومات الأفكار والمعتقدات المذهبية والتفسيرات والتأويلات الدينية الوضعية، والتي تتسم بالحدية، والتي تستحب بأنماط التشدد والتزمت في الخطاب الديني، وفي السلوك الزي، بل وفي اللغة اليومية التي تستخدم في التخاطب والتفاعل مع الآخرين، أو بين بعضهم بعضا، وغالبا ما تكون اللغة ذات موارد دينية ومستمدة من مصادر لغوية أصولية قديمة، وذات مفردات وعبارات نمطية وتناصات (تضمينات) مع نصوص دينية مقدسة أو سنوية، أو من لغة مؤسسي المذهب وشروحهم وبعض التابعين في الدائرة السنية أو الشيعية أو الإباضية”.
ويضيف عبدالفتاح أن هذا النمط من الخطاب الديني المكتوب أو الملفوظ في الخطاب اليومي ومصادره يرمي إلى الاستعلاء على أنماط التدين الشعبي ومروياته، وعلى نمط الخطابات الدينية الأصولية الرسمية، من فقهاء المؤسسة الدينية الرسمية ودعاتها ووعاظها. هذا النمط نجده لدى بعض المنتمين للجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والجماعات السلفية الجهادية وغيرها، ودعاة الطرق، وسلعهم الخطابية والرمزية ونظم الزي للرجال والنساء كالجلباب والنقاب والحجاب والإسدال للنساء وتربية الذقون للرجال والجلباب القصير لدى بعض السلفيين، والرؤى والأفكار التي يطرحونها في الأسواق الدينية الوطنية أو الإقليمية أو الكونية. إن الأنماط الدينية والفكرية والسلوكية ذات الوجوه والأسانيد الدينية الوضعية هي الأكثر بروزا وتمددا منذ أربعة عقود في مصر وغالب الدول العربية.
ويرى عبدالفتاح أن الجمود الفكري وإعادة إنتاج الأفكار والمقولات ـ وبعضها أيديولوجي ديني تأويلي ـ بات يشكل سمة عامة منذ عقود، ويبدو أن هذه الحالة التاريخية المستمرة لم تعد تقلق أحدا في النخب السياسية أو في المعارضة أو في دوائر المثقفين أو الباحثين، والاستثناءات القلقة محدودة، ويتم فرض النسيان والحجب عليها.
ويشير إلى أن حالة من فقر الفكر وضعف الإرادة والكسل العقلي تسيطر على حياتنا العقلية، وبنياتنا النفسية الجماعية، والجميع يبدون متصالحين مع هذه الحالة الاجتماعية، إلا قليلا من العقول النقدية والإبداعية المسكونة بقلق الأسئلة، ونقد الموروثات الوضعية والسلوكيات الاجتماعية المحمولة على الازدواجية والنفاق والكسل الجماعي، واحتقار قيمة العمل والمسؤولية وضعف المبادرة الفردية أو الجماعية. ساد الامتثال والخضوع للقيم السلبية السائدة وتمثلها والتطبيع معها والتبرير لها.
حالة من فقر الفكر وضعف الإرادة والكسل العقلي تسيطر على حياتنا العقلية، والجميع يبدون متصالحين مع هذه الحالة الاجتماعية
ويوضح عبدالفتاح أن ثمة نزعة للثميل الظاهري لأداء العمل، بينما لا عمل ولا إنتاج ولا إبداع، وإنما الجميع في حالة تمثيل شكلي لأدائهم للأعمال المنوطة بهم، بينما لا يقدم العمل في أشكاله البيروقراطية المتخلفة إلا كجزء من سوق الفساد والرشوة والاختلاس.. إلخ، والأخطر أن تضخم الجهاز الإداري للدولة بات مفرطا وخطرا وبات يشكل حالة من استنزاف موارد الدولة؛ لأنها بيروقراطية كسولة، وتكره العمل الجاد، وإعمال الثواب والعقاب، وتعتبر أن محاولة تحريك هذه الجثة البيروقراطية الضخمة هو تهديد لمصالحها وعمل مضاد للثورة، وتثير المخاوف من التظاهر والاحتجاج الفئوي إذا ما حاولت الدولة إحداث إصلاح إداري جذري أو جزئي في إطار هذه البيروقراطية الهرمة.
ويرى أن الجمود العقلي المسيطر وراءه العديد من الأسباب وعلى رأسها:
أولا حالة موت السياسة التي سادت البيروقراطية السياسية والإدارية للدولة التسلطية منذ الثالث والعشرين من يوليو 1952 ونظامها المستمر حتى الآن، حيث لا يوجد طلب سياسي واجتماعي على الفكر النقدي الجديد الذي يسائل مجتمعه وقيمه وأفكاره وأنماط تدينه التقليدي الوضعي الموروث والمستمر تاريخيا.
ثانيا سطوة مفهوم الاجماع السياسي ذي السند الديني التأويلي والنزعة الأشعرية الداعمة للسلطة السياسية الحاكمة، ونزعتها الإقصائية للرؤى والأفكار الأخرى، وحساسيتها من النزعة العقلية النقلية.
ثالثا هيمنة التسلطية الدينية ربيبة التسلطية السياسية المسيطرة تاريخيا، على نحو أدى إلى سطوة عقلية التكفير والتحريم والتأثيم على حرية العقل والإبداع، وحلول العقل الناقل الاتباعي، علامة ورمزا على الذهنية السائدة نخبويا وجماهيريا إلا قليلا.
رابعا التدهور المستمر في النظام التعليم وسياساته ومناهجه على نحو أصبح التعليم يشكل عائقا أساسيا من عوائق التطور السياسي والاجتماعي والثقافي في بلادنا.
خامسا تزييف الفكر والقيم وأنماط السلوك الاجتماعي الرافضة للتفكير الحر والمبادرة الفردية والعقل الناقد.
سادسا الفجوة المعرفية بين تكوين النخب الثقافية والثقافية، وبين تطورات المعرفة في عالمنا المتغير. هذه الأسباب وغيرها باتت تشكل علامة على غياب العقل الناقد والحيوية الذهنية وروح المبادرة والإبداع الوطني.. وا أسفاه!
ماهية التجديد الديني
وتساءل عبدالفتاح: ما هو الفكر الجديد والفكر الديني التجديدي المطلوبان؟ ويؤكد أنه لا يمكن الفصل بين الفكر الجديد وتجديد العقل والفكر المصري وبين الفكر الديني، لأن ثمة جدلا وتفاعلا بين الفكر وطرائق اشتغاله وعمله، وبيئته الوطنية والإقليمية والكونية الإنسانية، وبين الفكر الديني داخل المؤسسات الدينية الرسمية أو الطوعية أو الفردية، من ناحية ثانية بين الفكر الديني والفكر السياسي وسماته في مجتمعات لا تزال الاختلاطات والتداخلات والتشويشات بين الدين والسياسة، وتوظيف السياسي للديني، بل وبعض الفكر السائد لأداء وظائف سياسية تمس شرعية الحكم المهيمن، أو في الأطر التعبوية الاجتماعية والسياسية والدينية كتابع أو حليف نسبيا لأجهزة الدولة الأيديولوجية، في نظم تسلطية الطابع، تشكل الحالة السياسية المصرية مثالا هاما على المقولة السابقة، وذلك على النحو التالي:
أولا في ظل المرحلة شبه الليبرالية تأثر الفكر الديني السائد داخل المؤسسة الدينية وخارجها بالمجتمع شبه المفتوح والمتعدد، وبيئة الحريات العامة السياسية والفكرية على نحو شكل تحديا لبعض المشايخ الذين شاركوا في الحياة العامة وقدموا بعض الاجتهادات في الفكر الديني من مثل محمد عبده، طه حسين، على عبدالرازق، مصطفى المراغي، محمود شلتوت، ومحمود بخيث.
الباحث نبيل عبدالفتاح عمد في كتابه “تجديد الفكر الديني” إلى تناول الأصول التاريخية والسياقية لطرح مسألة التجديد والإصلاح الديني وأسبابها وتطوراتها
ثانيا أدت التسلطية السياسية وأيديولوجيا التعبئة لنظام ثورة يوليو 1952 في مختلف مراحله إلى فرض قيود على حريات الرأي والتعبير والتدين والاعتقاد، ومن ثم فرضت قيود على الفكر الديني وازداد جمودا.
ثالثا ساهم تمدد الحركة الإسلامية السياسية والراديكالية في فرض المزيد من القيود على الفكر عموما والديني خاصة، من خلال استخدام آليات التكفير، والثنائيات الضدية حول الحرام والحلال، وانتشار ظواهر التحريض على مصادرة الكتب والأعمال السردية الإبداعية أو الفنية الأخرى، من منظور الحلال والحرام والكفر والإيمان والخلط بين الواقع وبين الأعمال السردية والفنية.
ويؤكد عبدالفتاح أن ثمة تفاعلات بين البيئة السياسية والفكرية وبين حرية الفكر عامة، والديني خاصة، ومن ثم من الصعوبة بمكان أن يشهد التفكير الديني تجديدا أو إصلاحا في ظل هيمنة التسلطية السياسية أو الشمولية، أو القيود على حريات الفكر والإبداع عموما والديني خصوصا.
من ناحية أخرى لا يمكن تجديد الفكر الديني أو إصلاحه دونما تجديد للدولة والنظام السياسي وتطوره من التسلطية إلى الديمقراطية، فلا إصلاح دينيا دون إصلاح سياسي، ولا تجديد دينيا دون تجديد سياسي في الفكر والدولة والمؤسسات والقيم السياسية والسلوك السياسي والاجتماعي.
العرب