جاءت التطورات السياسية في منطقة آسيا الوسطى بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لتعكس حقيقة الرؤية الخارجية للولايات المتحدة الامريكية والتعامل الميداني مع قضايا الشعوب المقهورة وسياستها العدوانية التي ساهمت باحتلال دولة ذات سيادة وعضو في منظمة الأمم المتحدة ولم تراعي إلا مصالحها ومنافعها السياسية والاقتصادية بعيدا عن مستقبل الشعب الأفغاني وعبر الاعتراف الذي جاء على لسان الرئيس الأمريكي، (جو بايدن) بقوله أن واشنطن لا يمكن لها أن تعمل على إقامة مقومات دولة وإعداداسس لبنيان سياسي لها في بلد تحتله امربكا وتستثمر خيراته ، كانت هذه التوجهات معروفة لدى العديد من القوى المناهضة للسياسة الأمريكية وعداءها للشعوب الحرة واتت الوقائع والمشاهد التي اطلع عليها العالم عن صورة الانسحاب المذل واهانة المواطنين الأفغان الذين تعاونوا مع المحتلين لارضهم واخفاقها في انسحاب منظم يحمي لها هيبتها وإنما كان تصرفها بعيدا عن كل الأعراف والقيم الإنسانية والعسكرية الميدانية.
هذه الأحداث كان لها وقعها على مستقبل السياسة الأمريكية في منطقة آسيا الوسطى واستخدمت بعض أراضي دولها من قبل الإدارة الأمريكية في عملية احتلال أفغانستان عام ٢٠٠١ عندما شرعت بإقامة عدة قواعد عسكرية واستخدمت مسارات جوية وعقدت صفقات لوجستية مع دولتي أوزبكستان وقيزغستان ، فشرعت ببناء قاعدة عسكرية متطورة في طشقند واستمر نشاطها في تقديم الدعم اللوجستي لقيادة العمليات العسكرية داخل الأراضي الأفغانية وبعد الأحداث الدامية التي وقعت في عام ٢٠٠٥ وقتل فيها مئات المتظاهرين الاوزبكستانين على يد أجهزة النظام الحاكم نتيجة الرفض الشعبي والتظاهرات الاحتجاجية مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تطالب بإجراء تحقيق دولي في الأحداث والتنديد بسياسة طشقند ، الأمر الذي أدى إلى قيام السلطات الاوزبكستانية بطرد المنظمات الغربية وتقليص نشاط القاعدة الأمريكية واعقبها مغادرة القوات في تموز ٢٠٠٥ ، في حين أن العلاقات مع دولة قيزغستان التي تبعد عن العاصمة كابل مسافة ١،٠١٨ كم وتقع شرق دولة أوزبكستان وشمال دولة طاجكستان بقيت متماسكة رغم التظاهرات التي نادت بإسقاط نظام الرئيس(كرمان بك باكييف) عام ٢٠٠٥ وبقيت القاعدة الأمريكية في مدينة (ماناس) بقيزغستان تمارس نشاطها اللوجستي في نقل الجنود الأمريكان إلى أفغانستان ورغم أسلوب التعسف الذي مارسه (باكييف) مع شعبه إلا أن المصالح الأمريكية تغاضت عن هذه الأحداث واستمرت بالتعامل معه ورفعت قيمة ايجار القاعدة إلى(٦٣) مليون دولار سنويا .
عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تعزيز علاقتها مع بلدان آسيا الوسطى وقدمت لها العديد من المساعدات الاقتصادية و الميدانية في مكافحة تجارة المخدرات وتأمين الحدود ومنع حالات التسلل بين الدول الحليفة لها ومواجهة شبكات الإرهاب الدولي، مقابل تقديم الدعم اللوجستي في إدانة زخم الاحتلال الامريكي لأفغانستان، وعملت هذه الدول على إقامة علاقات متوازنة مع الصين وروسيا وتأمين سياستها في التوازن الداخلي لمنظوماتها السياسية ، كما سعت واشنطن إلى إقامة سلسلة من الإصلاحات الإدارية والسياسية وإعداد برامج تنموية استثمارية لمنظمات المجتمع المدني والدفاع عن حقوق الإنسان وتشديد الإجراءات لمكافحة الفساد المالي وهدر الأموال العامة في أفغانستان ولكنها لم تنجح في إدارتها ولم تنتج إلا نظاما سياسيا فاسدا وقوات عسكرية وأمنية بعيدة عن الولاء لأفغانستان وشبكات من المتنفذين وسراق المال وهدر ثروات البلاد والاثراء على حساب أبناء الشعب الأفغاني وهذه كانت إحدى النتائج التي سارعت بإسقاط نظام الرئيس أشرف غني وانسحاب القوات العسكرية من الميدان وتقدم مقاتلي حركة طالبان وسيطرتها على جميع الولايات الأفغانية خلال أيام معدودة.
لعبت السياسة الدولية والمصالح الإقليمية دورا هاما في مد العلاقات بين واشنطن ودول آسيا الوسطى من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، فسعت الحكومة الروسية إلى دور إقليمي في هذه المنطقة وكانت أولى محاولتها ما صرح به الرئيس بوتين في ولاية تكساس الأمريكية في تشرين الثاني ٢٠٠١ بترحيبه بالغزو الأمريكي لأفغانستان والتعاون في مكافحة الإرهاب الدولي ورأى انها فرصة لتكون روسيا شريكا دوليا عالميا في منطقة آسيا الوسطى وتحديدا في أفغانستان وكذلك فعلت جمهورية الصين بمباركة الخطوة الأمريكية ، هكذا كان المشهد السياسي الدولي لا يراعي حقوق الشعوب والدول ولا يهتم بالأوضاع الإنسانية بل يسعى لمصالحة الإستراتيجية ومنافعة الميدانية ، وكان من بوادر هذه المصالح أن عملت منظمة الامن الجماعي وهي عبارة عن منظمة دولية وحلفا عسكريا تأسست من دول (روسيا وأرمينيا كازاخستان طاجكستان وأوزبكستان وقيزغستان ) لتوسيع تواجدها العسكري بالقرب من قاعدة (ماناس) ونشرت أكثر من (٥٠٠٠) جندي في أراضي دولة طاجكستان في توجيه استراتيجي لادامة روح التنافس الميداني وتعزيز التوازنات السياسية في محيط وأجواء أفغانستان حيث القوات الأمريكية المنتشرة .
بادرت واشنطن بمحاولات عديدة لربط الدولة الأفغانية بدول جنوب آسيا وآسيا الوسطى بعلاقات تجارية واقتصادية واستثمارات مالية ولكنها لم تفلح كثيرا بسبب المد والنفوذ الاقتصادي والمالي الصيني وسعيه لتنفيذ خطته الإستراتيجية(مبادرةالحزام والطريق ) وتخصيص مليارات الدولارات لمشاريع المواصلات ومد خطوط الاتصالات والسكك الحديدية بين دول آسيا الوسطى وغرب الصين وتعزيز الدور الروسي في منظومة الاتحاد الاقتصادي لمنطقة اوراسيا ، ثم تطورت الأوضاع بعد عقد من الزمن وقررت إدارة الرئيس الأمريكي(اوباما) الانسحاب من قاعدة ماناس العسكرية بدولة قيزغستان في الثالث من حزيران ٢٠١٤ وهي المرحلة التي تعاظمت فيها قوة حركة طالبان وبدأت بتوسيع نشاطاتها العسكرية في الولايات القريبة من الحدود الباكستانية وجنوب وشمال شرق البلاد وبتقدم عناصر الحركة واستيلائها على بعض المناطق، شعرت العديد من الدول المجاورة والدول الكبرى والصين وروسيا بخطورة التطورات في المشهد الأفغاني وأيقنت الصين أن الدولة الأفغانية المجاورة لها تشكل قلب المشروع الاقتصادي الصيني إذ تقع مدينتي قندهار وكابول في عصب الطريق البري وأنها تشكل الممر الأقصى ما بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا والشرق الأوسط، وبدأت الاستحضارات العسكرية لمواجهة الأخطار القادمة بعد جولات الحوار التي عقدت بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان في العاصمة القطرية(الدوحة) وانتهت بالاتفاق على تأمين انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان ،وهنا استشعرت روسيا حجم الأخطار المستقبلية فاعلنت عن إجراء مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة مع طاجكستان وأوزبكستان في بداية شهر آب ٢٠٢١ ، ثم بادرت الصين وروسيا بالاتصال بقيادات في حركة طالبان والحوار معهم وقدمت الحركة تطمينات بالحفاظ على الحدود الدولية وحماية أمن وسلامة المسؤولين والبعثات الدبلوماسية واعلنت ترحيبها بالاستعداد الصيني لعملية البناء والأعمار والاستثمار داخل أفغانستان، وجعلت الأحداث المتسارعة جمهوريات آسيا الوسطى (أوزبكستان وتركمستان طاجكستان ) تفكر في كيفية الحفاظ على علاقات جيدة مع حركة طالبان تضمن سلامة الحدود المشتركة بينهم ومنع تدفق اللاجئين الأفغان إليهم خاصة وانهم لا يمتلكون أي تأثير داخلي او أدوات فعالة لدى الأحزاب والتيارات والقبائل الأفغانية وان غايتهم السعي للاهتمام بمنظومة الأمن الإجتماعي وإدامة المشاريع الاقتصادية.
كان للاحتلال الامريكي للدولة الأفغانية انعكاسات على طبيعة سياسة البلدان المجاورة وأصبحت منطقة آسيا الوسطى متعددة الأقطاب وأدركت كيفية التعامل والحفاظ على مصالحها مع الدول الكبرى بعد أن خبرت وعرفت طبيعة العلاقة مع الإدارة الأمريكية وما تسعى إليه الصين وروسيا وبدأت بالتعامل معهم برؤية ميدانية جعلها تنظر بشكل أكبر لمرحلة قادمة من التوازنات السياسية الدولية والإقليمية في المشهد الأفغاني.
وحدة الدراسات الآسيوية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية