قلب الظلام: كونغو تشي غيفارا

قلب الظلام: كونغو تشي غيفارا

لو كان تشي غيفارا ما يزال على قيد الحياة اليوم، لكان عمره 93 عاما. وسيكون أكبر سناً من إمكانية خوض حرب عصابات مثل التي كان قد خاضها في كوبا.

وفي الكونغو، وبوليفيا حيث قتل في 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 على يد ماريو تيران، وهو ضابط عسكري في السابعة والعشرين من العمر، والذي أطلق النار عليه 9 مرات، ليس لقتله فقط، وإنما لإصابته بأشد الألم والمعاناة.

وقد حصل تيران والجيش البوليفي على مساعدة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي كانت تتعقب وتتتبع تحركات غيفارا لسنوات، كما كان يعلم.

لم تكن هناك من طريقة يمكن أن يختبئ بها تشي من وكالة المخابرات المركزية.

فقد تابعت الوكالة وراقبت الرحلات الجوية، والركاب، وأنواع المشتريات التي يتسوقها المقاتلون للتخييم في الغابات وشن هجمات على الجنود المدربين تدريبا جيدا والذين يخدمون في نظام قمعي.

ولم يكن تشي يلقي باللوم على وكالة المخابرات المركزية. بدلا من ذلك، ألقى باللوم على “الإمبريالية”، وأوضح أن لها “سلطة على جميع شركات الطيران والمطارات” وأنها تراقب “شراء كميات غير عادية من حقائب الظهر وأغطية النايلون والسكاكين والبطانيات، إلخ”.

إنه لم يكن في مواجهة “نمر من ورق”.

بعد فترة وجيزة من إعلان نبأ وفاته، أصبح تشي رمزا ثوريا بين عشية وضحاها، على الرغم من أنه كان يسير مسبقا في هذا الاتجاه.

وأتذكر أنني رأيت صورته في كل مكان، لا سيما في الحافلات وسيارات الأجرة، عندما كنت أعيش في المكسيك في العام 1975.

وما يزال تشي شخصية بارزة، على الرغم من أن صورته قد شُوهت جزئيا بسبب روايته بالغة الصدق لما حدث في الأشهر السبعة في العام 1965 عندما فشل في إثارة ثورة في الكونغو، ليس بعيدا عن شواطئ بحيرة تنجانيقا، التي كانت “تغويه” باستمرار، كما أوضح.

وتوفر طريقا للهروب إلى تنزانيا الصديقة. وبدت الحملة، المحكوم عليها بالفشل منذ البداية، وكأنها بداية النهاية بالنسبة لتشي الذي كتب: “خلال تلك الساعات الأخيرة من الوقت الذي قضيناه في الكونغو، شعرت بالوحدة”. وأضاف: “لم أكن قد شعرت بأنني وحيد بهذه الطريقة أبداً من قبل”.

يمكنك أن تصف الكونغو بأنها “قلب الظلام” بالنسبة لتشي؛ المكان الذي واجه فيه شياطينه الداخلية الخاصة التي ملأته بالهواجس.

كان محرجا جدا من العودة إلى كوبا فور الهزيمة العسكرية التي مُني بها جيش حرب العصابات الذي كان قد جمعه، وأمضى ستة أشهر وهو يعيش سرا في السفارة الكوبية في دار السلام، وفي “منزل آمن” في براغ، متهربا من القتلة المحتملين.

كوبا وهافانا تحتفيان بـ”تشي” جيفارا بعد 50 عاما على مقتله
للمزيد من الترجمات انقر هنا

صحيح أن تشي لم يكن السيد كورتز، الشرير الإمبريالي في رواية الكاتب جوزيف كونراد القصيرة، “قلب الظلام” Heart of Darkness، الذي أراد جلب الحضارة للسكان الأصليين في الكونغو، لكنه فقد الإيمان، وأخذ يصرخ، “أبيدوا المتوحشين”، ويطبق سياسة قوامها الإبادة الجماعية.

ومع ذلك، مثل كورتز، أصيب تشي بخيبة أمل في الكونغو. ولم تكن الحضارة هي الشيء الذي أراد أن يجلبه لتلك لأمة، وإنما الثورة والاشتراكية.

في كانون الأول (ديسمبر) 1964، ألقى تشي كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتوقع فيها أن “رأسمالية اليانكي الاحتكارية” سوف تحفر قبرها قريبا.

وبعد أقل من عام، كتب أن الكونغوليين كانوا “أسوأ مثال للمقاتل واجهته أبداً”.

وكان حلمه بالثورة قد تحول إلى غبار.

لكنه حصل من تلك المأساة على كتاب، ربما يكون أفضل ما كتب.

وكتب الروائي والصحفي الاستقصائي الإيطالي، روبرتو سافيانو، في تموز (يوليو) 2021 أن تشي “يسبر غور العالم بنظرة أنثروبولوجية وقلم شاعري”.

وأضاف سافيانو أنه كان “صحفيّ مغامرات ممتازاً”.

وفي نهاية روايته لما حدث في الكونغو، كتب تشي: “لقد تعلمت أشياء معينة.

لن أرتكب هذه الأخطاء مرة أخرى أبدًا، وربما أرتكب أخطاء أخرى مرة أخرى؛ وسوف أرتكب أخطاء جديدة”.

إذا لم يكن ثمة شيء آخر، فقد كان تشي صادقا، بقدر ما أمكن أن تتيح له ذاتيته الخاصة.

صدر الكتاب باللغة الإسبانية بعنوان Pasajes de la Guerra: Congo، وظهر باللغة الإنجليزية، أولاً باسم “الحلم الأفريقي” The African Dream الذي نشرته “مطبعة غروف”، ومرة أخرى هذا العام بعنوان “يوميات الكونغو: حلقات من الحرب الثورية في الكونغو” Congo Diary: Episodes of the Revolutionary War in the Congo (مطبعة سفن ستوريز).

وهو كتاب مذكرات، وتشريح، ونوع من الاعتراف، يكشف فيه المؤلف عن أفعاله السيئة وحساباته الخاطئة.

وهو ينتقد الحملة العسكرية بأكملها ومعظم النشطاء، من الكوبيين، الذين كانوا في الكونغو معه، والجنود الكونغوليين غير المستعدين وغير المجهزين الذين انضموا إليهم في بعض الأوقات.

في “التنويه” في بداية الكتاب، كتب المحررون أنهم يرغبون “الاعتراف بجهود وتفاني القائد فيدل كاسترو لمراجعته المفصلة للمخطوطة”.

أما ما انطوت عليه تلك المراجعة، فهو ما لم يقله أحد.

ومع ذلك، يوضح التنويه أن “يوميات الكونغو” هي النسخة الرسمية لدى الحكومة الكوبية لرواية تشي، والتي قام هو نفسه بتحريرها وتنقيحها وصقلها من ملاحظاته الميدانية الخام. كما ساعدت أرملته، أليدا غيفارا -زوجته الثانية- في تجهيز المخطوطة للنشر.

في العام 2002، عندما راجعت سينثيا غرينير طبعة “الحلم الأفريقي”، المعروفة أيضا باسم “مذكرات تشي السرية” لصحيفة “سان فرانسيسكو كرونيكل”، أوضحت أنها حاولت، في سبعينيات القرن الماضي، بصفتها محررة مقتنيات لــ”كتب بالانتاين” -وفشلت في الحصول على حقوق الولايات المتحدة لنشر المذكرات.

وقال لها ريجيس دوبريه، المثقف الفرنسي ومؤلف كتاب “ثورة في الثورة”؟ – والذي صاحب تشي لفترة وجيزة: “الكوبيون لن يسمحوا لها بالخروج أبدًا. سوف يحتفظون بها في أرشيفاتهم إلى الأبد”.

وقد أبقى الكوبيون عليها طي الكتمان لما يقرب من 40 عامًا. لكن دوبريه قلل من شأن فيدل والكوبيين. لا بد أن نشر نسخة محررة بدا أفضل من عدم نشر أي شيء على الإطلاق.

لا توجد كلمة انتقادية واحدة عن فيدل أو كوبا في اليوميات المنشورة.

وإذا كان هناك شيء مهم في النص الأصلي، فقد حذفه أحدهم. ومن المؤسف أن الكتاب لم يُنشر في العام 1967 أو 1968.

ربما كان ذلك ليمنع الطامحين إلى أن يكونوا غيفارات جدداً من ارتكابهم أخطاهم العسكرية الخاصة.

في مراجعتها في العام 2002، كتبت غرينير: “يبدو الرمز الثوري المحبوب كثير الشبه إلى حد كبير بعنصري قديم الطراز عندما يتعلق الأمر بتقييمه إخوانه السود في السلاح”.

ومن المحتمل أن يختلف معجبو تشي وأتباعه مع غرينير، لكنّ المرء يمكن أن يفهم سبب توصلها إلى استنتاجها.

كتب تشي في فصل “مقدمة: تحذير أولي”، التي تبدأ بقوله: “هذه قصة فشل”، أنه كان يريد “تحويل الكونغوليين إلى كوبيين”.

ومن المفارقات أن ما حدث، كما أضاف، كان “تحوُّل الكوبيين إلى كونغوليين”. وقال: “هذا لا يعكس رأيًا مهينًا للشعب الكونغولي، لكنه يعكس حقاً مثل هذه النظرة للجنود في ذلك الوقت”.

في نظر تشي، كان الجنود الكونغوليون غير مؤهلين لحرب العصابات أو للقتال من أي نوع.

لم يعرفوا كيف يطلقون النار من بندقية أو كيف يستعدون لنصب كمين للعدو. وقد هربوا من المعركة عند سماع أصوات إطلاق النار.

وأيضا، كانوا مؤمنين بالخرافات، وآمنوا بالسحر والتعاويذ، وذهبوا إلى البغايا في المدن، وأصيبوا بأمراض تناسلية، وعاشوا، مثل “الطفيليات”، على عرق الفلاحين.

وقرر تشي في وقت مبكر أن “الحرب لا تنتصر بمثل هذه القوات”.

وكلما طالت مدة إقامته في الكونغو، أصبح أكثر اقتناعا بعبثية حلمه.

وكتب: “لا يمكننا بمفردنا تحرير بلد لا يريد القتال”.

والجنود الكوبيون البيض، وكذلك الأفرو-كوبيين، لم يكونوا يعجبونه أيضًا. فقد تحدثوا بكلام ثوري، لكنهم لم ينخرطوا عملياً في المسيرة الثورية.

ولم تسفر محاولات تشي لإقناعهم باحترام الكونغوليين وعدم التسيد عليهم عن شيء.

منذ البداية، كان يعلم أنه يواجه أكثر أشكال الإمبريالية التي صادفها ضراوة على الإطلاق.

وأوضح أن الكونغو كانت مسرحا “لأقسى وأمر نضال من أجل التحرير”.

الآن، أصبح الأفارقة السود الذين قادوا الحركات المناهضة للاستعمار، للأسف “لوردات ثورة” يستمتعون “بعطلات أميرية”.

كانت الكولنيالية الجديدة سيئة مثل الكولنيالية نفسها.

لم يهدف وكلاء الإمبراطوريات إلى استعباد الناس واستغلالهم فحسب، بل كان هدفهم أيضًا هو “إلغاء الكائن البشري الفرد”. وكان ذلك محبطًا.

لم يستطع تشي التحدث بقواعد اللغة السواحيلية، أو التغلب على كآبة نفسه التي وجدها محرجة. كان يقول لنفسه “أنا متفائل”، كما لو أنه يحاول الهروب من “يأسه التام”.

وكان بياضه أسوأ عدو له. وقد صرخ قرب نهاية إقامته الأفريقية: “لقد قوّض لون بشرتي كل شيء”.

سوف يتساءل المرء عما يمكن أن يكون قد دار في خلده قبل أن يسافر من كوبا إلى الكونغو، بأوراق مزورة وتحت اسم مستعار، رامون بينيتيز.

ربما كان يؤمن بأسطورته الخاصة وقدرته على الانتصار على كل الصعاب. وفي الواقع، في الكونغو، غالبًا ما كان يبقى مع نفسه، ويدخن التبغ، ويقرأ الكتب ويكتب في مفكرته.

لم يندمج، بل تميز في الحقيقة، على الرغم من ارتباطه بالفلاحين الكونغوليين والنساء الكونغوليات اللواتي يعاملهن الرجال الكونغوليون “مثل البضائع”، كما اشتكى، وكان يتم شراؤهن وبيعهن.

لم تكن هناك أي نساء في جيش “المقاتلين من أجل الحرية”، كما يسميه تشي.

يضم “يوميات الكونغو” 34 صورة بالأبيض والأسود.

وتصور الكثير منها تشي وهو يدخن غليونًا أو سيجارًا، أحيانًا يبتسم، وأحيانًا يعبس، ويبدو كما لو أن الكونغو قد جعلته يشيخ أكثر بكثير مما ينبغي أن تفعل الأشهر السبعة التي قضاها كـ”تاتو”، الفدائي الكوبي غير المجهول كثيراً في قلب الظلام.

هل ثم شيء يمكن تعلمه من كتابه؟ نعم. قول الحقيقة، حتى إذا –ومتى- تكون مؤلمة.

كتب تشي: “إن استبدال الاستعمار بالاستعمار الجديد، أو استبدال مجموعة من المستعمرين الجدد بمجموعة أخرى لا تبدو بنفس القدر من السوء، ليس استراتيجية ثورية صحيحة”.

الغد