عوض الاهتمام بالمسائل والمشكلات المحلية، وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوصلته نحو الخارج، حيث كثف من تحركاته الدبلوماسية بهدف تدعيم حظوظه في الانتخابات الرئاسية القادمة وإقناع الفرنسيين بأنه الزعيم الأوروبي الجديد والوحيد القادر على حلّ الحروب والمشكلات الأمنية في عدد من الدول عدا عن أنه قادر على عقد صفقات واتفاقات مربحة لباريس مع دول كبرى.
واشنطن – لم يتبق سوى أربعة أشهر على تنظيم الانتخابات الفرنسية المقبلة وجميع المتنافسين على أُهبة الاستعداد لخوضها.
وتزامنا مع وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى مدينة جدة السعودية ضمن جولة خارجية إلى دول خليجية، اختار حزب يمين الوسط الرئيسي مرشحته فاليري بيكريس التي تدير منطقة إيل دو فرانس في باريس. وفي خطاب فوزها، حددت موقفها من القانون والنظام والهجرة والاقتصاد، وهي جميع النقاط المعروفة، والتي من المتوقع أن يركز عليها منافسو ماكرون في الانتخابات الرئاسية.
فيصل اليافعي: زيارات ماكرون إلى دول الخليج تمنحه فرصة الاحتفاظ بالرئاسة
وأجرى ماكرون بعض المناورات في الشرق الأوسط، حيث اختتم جولة شملت ثلاث دول هي قطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وكان هناك بالطبع الحديث عن قضايا متصلة بالسياسات الخارجية، لكن جمهوره الحقيقي المستهدف كان على بعد آلاف من الأميال في فرنسا.
ورأى محللون أن هذه التحركات الخارجية تحسب لصالح ماكرون في حملته الانتخابية بعد تمكّنه من عقد صفقات عسكرية وتجارية ستعود بالفائدة المباشرة على الفرنسيين إثر سلسلة تحديات واجهتها باريس في عهد ماكرون من بينها حركة السترات الصفر ووباء كورونا وانعكاساته على الوضع الاقتصادي داخل فرنسا.
ويقول المحلل السياسي فيصل اليافعي في تقرير لموقع “سنديكيشن بيورو” المتخصص في شؤون الشرق الأوسط والأدنى إن الرئيس الفرنسي يأمل في الحفاظ على منصبه من خلال تحويل الحوار بعيدا عن الشأن المحلي، وهو يعرف أن أفضل فرصة لإعادة انتخابه تتمثل في تشتيت انتباه الفرنسيين عن القضايا المحلية.
وركزت كل محطة في جولته الخليجية على إرسال رسالة مفادها أنه رجل دولة عالمي، حيث كشف في قطر عن خطط لإرسال بعثة دبلوماسية أوروبية مشتركة إلى أفغانستان. وقد احتار الغرب حول كيفية الحفاظ على العلاقات مع كابول دون تقديم اعتراف سياسي بحركة طالبان، وستنشئ خطة ماكرون منظمة مشتركة بين عدد من الدول الأوروبية، مع وجود سفراء، ولكن دون اعتراف دبلوماسي.
وحاول في السعودية إنهاء الأزمة الدبلوماسية بين لبنان والمملكة، حيث رتب مكالمة هاتفية بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي. ومنذ انفجار المرفأ في بيروت في صيف العام الماضي، سعى ماكرون لتصوير نفسه على أنه بطل، أو ربما حام للمصالح اللبنانية.
لكن رحلته إلى الإمارات العربية المتحدة ربما كانت الخطوة الأكثر أهمية على الصعيد الشخصي، حيث وقعت الإمارات صفقة لشراء معدات فرنسية متطورة بقيمة 19 مليار دولار، بما في ذلك 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال و12 مروحية كاراكال يبدأ تسليمها ابتداء من عام 2027 وحتى 2031، وهي أكبر صفقة أجنبية على الإطلاق للطائرات الفرنسية الرائدة. وستلعب هذه الصفقة تحديدا دورا جيدا على الصعيد المحلي، حيث لا يزال ماكرون يعاني من انهيار صفقة لبيع غواصات فرنسية لأستراليا.
عامل الحظ الذي يعد المورد السياسي الأكثر مراوغة والأكثر أهمية، ربما يحالف ماكرون في الانتخابات الرئاسية هذه المرة
وقال ماكرون عن هذه الصفقة إنها من أكبر الصفقات في تاريخ فرنسا ووصفتها وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي التي كانت ضمن الوفد الوزاري المرافق لماكرون بأنها “صفقة تاريخية” ستؤمّن المئات من الوظائف للفرنسيين.
وبقدر ما يأمل ماكرون في أن يركز الفرنسيون على نجاحاته في مضمار السياسة الخارجية، إلا أن تلك النجاحات كانت شحيحة على مدى الأشهر القليلة الماضية. فقد انسحبت أستراليا فجأة من صفقة غواصات بالمليارات من الدولارات في شهر سبتمبر الماضي، وانضمت بدلا من ذلك إلى اتفاق استراتيجي مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
ومثّل ذلك إهانة مزدوجة، فلم يتم فقط تلطيخ سمعة المعدات العسكرية الفرنسية على مرأى ومسمع من العالم، بل أدى ذلك إلى فشل الاستراتيجية التي كانت ستشهد قيام فرنسا باستعراض قوتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ناهيك عن أن ثلاثة من أقرب حلفاء فرنسا كذبوا عليه أو أبقوا ذلك الاتفاق الرئيسي سرا بينهم.
ومثل اتفاق “أوكوس” خيانة كبرى، لكن بمجرد مضي بعض الوقت على ذلك الخلاف، التحمت فرنسا وبريطانيا في صراع سياسي حول المهاجرين الذين يعبرون القناة الإنجليزية أو بحر المانش.
ويعد كل ذلك أهدافا كبيرة وسهلة لمنافسي ماكرون، فيمكن تصويره على أنه رئيس لا يستطيع السيطرة على المهاجرين والذي لا يثق به أحد، حتى أقرب حلفاء فرنسا.
☚ توقيع الإمارات لأكبر صفقة أجنبية على الإطلاق من الطائرات الفرنسية الرائدة سيلعب دورا جيدا على الصعيد المحلي في باريس
ومع ذلك، يرى اليافعي أن عامل الحظ، والذي يعد المورد السياسي الأكثر مراوغة والأكثر أهمية، ربما يحالف ماكرون هذه المرة.
فمع خروج الألمانية أنجيلا ميركل من المسرح السياسي، لا توجد شخصية أخرى يمكن أن تمثل قارة أوروبا سياسيا بكل مصداقية، ولم يكن لدى خليفة ميركل أولاف شولتز الكثير من الوقت لتأكيد سلطته في ألمانيا، أو تقديم نفسه إلى القارة الأوروبية ككل. وبالنسبة إلى ماكرون المفعم بالطموح، هذه هي اللحظة الحاسمة، وقد استغل تلك الفرصة قبل أسبوعين من خلال توقيع معاهدة ثنائية كبيرة مع إيطاليا.
كما حالف الرئيس الفرنسي الحظ مرة أخرى، فاعتبارا من شهر يناير القادم ستتولى باريس الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، مما يمنحه بضعة أشهر ليتبختر على مسرح الاتحاد الأوروبي. ومن المؤكد أن تلك المهمة تحمل معها بعض الصعاب، فبعد مغادرة المملكة المتحدة، لا يزال هناك شعور مناهض للاتحاد الأوروبي داخل فرنسا، والذي يمكن استغلاله. لكن هذا الاحتمال يتضاءل بالمقارنة مع الجانب الإيجابي لذلك الأمر، حيث يمكن رسم صورة ماكرون في هيئة رجل الدولة أمام رجال اليمين المتطرف، الأول مارين لوبان متطرفة من الجيل الثاني، والآخر إريك زمور والذي أدين مرتين بسبب خطاب يحض على الكراهية، وتلك مقارنة وتنافس في صالح ماكرون.
إن الميزة الكبرى للرئاسة هي أنها تسمح لحاملها بالتصرف واتخاذ القرارات، وفي الجانب الآخر، لا يوجد شيء للمتنافسين سوى الحديث. وإذا تمكن ماكرون من تقديم نفسه كزعيم جديد لأوروبا، أو شخصا قادرا على إنجاز المهام في الخارج، أو شخصا قادرا على حل المشكلات الصعبة في أفغانستان بكل سهولة أو تعزيز التعاون مع روما، فقد يعكس ذلك شيئا من الاختلاف والتباين مع منافسيه، مما سيسمح له بالاحتفاظ بكرسي الرئاسة رغم مواجهته لانتقادات محلية.
ويرجح اليافعي أن يلاحظ الناخب الفرنسي تبختر رئيسه ما بين القصور الخليجية، مما يعطى ماكرون فرصة للاحتفاظ بكرسيه في الانتخابات القادمة.
العرب