الخرطوم- يجلس أحمد عباس في ذهول داخل متجره الفخم متابعا بضع أشخاص يتجولون بين الأرفف الممتلئة، وفي خاطره ذات الموعد من العام الماضي حين كان التزاحم على الشراء يجعله غير قادر حتى على فرك أصابعه، لكنه الآن يحاول معادلة الوضع بعد تراجع القوى الشرائية إثر الارتفاع الكبير في الأسعار.
وبرز المضاربون في سوق العملات والذهب كسبب رئيسي لانفلات أسعار صرف العملات مقابل الجنيه -قبل قرار التحرير- مما أسهم في ارتفاع أسعار المنتجات خاصة المستورد منها.
ومع تحرير سعر الصرف، يبدو الوضع في نظر كثيرين أشد قتامة حيث قررت بعض البنوك يوم الاثنين بيع الدولار الواحد مقابل 606 جنيهات، وهو رقم قياسي للغاية من شأنه مضاعفة أسعار السلع لأرقام فلكية.
ولم تقتصر الأسعار العالية على السلع الضرورية والاستهلاكية فطالت الزيادات قطاع الأدوية والكهرباء والنفايات والوقود وغاز الطهي، كما زادت تعرفة خطوط النقل العام وكذلك رفعت شركات النقل الخاصة أسعارها وامتدت الزيادات إلى الملابس والأحذية بنسب بلغت في بعضها 500-1000%.
ويفرض اقتراب شهر رمضان واقعا أكثر تعقيدا على الغالبية العظمى من السودانيين، فتخلت مئات الأسر عن التحضيرات التقليدية الشهيرة المتمثلة في شراب “الحلو مر” بعد الزيادات الكبيرة التي طالت أسعار المواد التي تستلزمها صناعته المنزلية، كما شق على مئات الأسر تجهيز الأطعمة المجففة واللحوم بعد أن كانت عادة متبعة على مر سنوات طويلة ومتوارثة عبر الأجيال.
ويشرح صبري محمد، صاحب متجر بسيط بالخرطوم، بأسى شديد كيف أثرت الأسعار العالية على وضعه بسبب الركود وعدم قدرة الناس على مجاراة الغلاء قائلا للجزيرة نت “أصبحوا يشترون السلع الأساسية كالحليب والسكر بكميات بسيطة للغاية تجنبا لدفع مبالغ كبيرة” كما يتحدث عن عدم معرفة السبب وراء الزيادة الكبيرة والمستمرة: فتارة تربط بأسعار الوقود وتارة أخرى بانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، ويتوقع المواطن أن يكون رمضان صعبا للغاية على آلاف الأسر غير المقتدرة، ويؤكد أن العديد من المتاجر الكبيرة قررت التوقف عن البيع كليا بعد التغير المستمر بالأسعار.
قرارات ومبادرات
وفي محاولة من الحكومة لتدارك الأوضاع، أصدرت اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية -المعاد تشكيلها برئاسة الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” نائب رئيس مجلس السيادة، الأحد الماضي- 16 قرارا لمحاصرة الانهيار الاقتصادي بينها توحيد سعر الصرف وتسهيل إجراءات توفير احتياجات رمضان مع إنشاء محكمة خاصة بالاقتصاد لمحاكمة مخرّبي الاقتصاد خاصة العاملين في مجالات التهرب الضريبي والتلاعب بالدولار وتهريب الذهب والسلع، حيث أعلن عن القبض على 40 من كبار المتلاعبين بالذهب والدولار وملاحقة مموليهم.
وبعد إعلان البنك المركزي الأسبوع الماضي تحرير أسعار الصرف وترك تحديدها للبنوك، يتكهن خبراء بأن تلك الخطوة ستكون مقدمة لانهيار اقتصادي يطال قطاعات واسعة، سيما في ظل التأكيدات بعدم توفر الاحتياطات النقدية المطلوبة لمثل هذه الخطوة.
على جانب آخر، تنشط مبادرات مجتمعية لإعانة الأسر ومحاولة تمكينها من الحصول على المستلزمات الضرورية حيث تصدر حساب منصة “هاشتاق (وسم) السودان” الذي يصنف كأحد أكبر الحسابات السودانية على تويتر قائمة المبادرين لدعم الأسر المستحقة لاحتياجات رمضان بجمع المساعدات المالية عبر حساب بنكي، وأيضا يجمع المساعدات العينية التي تقدمها الشركات والمحال التي تهتم بالمسؤولية الاجتماعية.
يقول طارق حامد الذي يدير الحساب بنحو 700 ألف متابع -للجزيرة نت- إن إحساسه بأهمية المبادرة هذا العام تضاعف بعد تلمسه تزايدا كبيرا في أعداد الأسر المحتاجة قياسا بالأعوام السابقة، وعلى ذات النسق تعمل مبادرات شبيهة داخل الأحياء وعبر مجموعات تواصل مغلقة لجمع تبرعات لصالح الأسر المتعففة وغير القادرة على مواجهة الوضع الاقتصادي المأزوم.
اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية برئاسة الفريق أول حميدتي أصدرت قرارات لمحاصرة الانهيار (رويترز)
تداعيات صعبة
ويلخص الخبير الاقتصادي سنهوري عيسى أسباب التدهور الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع وتراجع قيمة العملة المحلية كنتاج لسياسات إصلاح اقتصادي طبقتها حكومة رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك تجاوبا مع اشتراطات صندوق النقد والبنك الدوليين، وسط ظروف لم تكن مواتية خاصة قرارها الخاص بتعويم الجنيه، حين تقرر رفع قيمته مقابل الدولار من 55 إلى 375 جنيه دفعة واحدة.
ويضيف للجزيرة نت أنه وبعد عام من قرار التعويم الجزئي للجنيه، تراجعت قيمته التبادلية بنحو 75%، وحتى هذه النسبة -كما يقول- تآكلت بفعل التضخم وارتفاع الأسعار وتحرير المواد البترولية التي أثرت بدورها على تكلفة الإنتاجين الزراعي والصناعي، يضاف إليه ارتفاع أسعار السلع المستوردة، كما أن عدم الاستقرار السياسي وتعليق المساعدات الدولية بعد 25 أكتوبر/تشرين الأول وانسداد الأفق السياسي أثر على إمدادات السلع والخدمات مؤديا لتردى الوضع مع تزايد حدة المضاربات.
وحال تعثر الوصول إلى تسوية سياسية عاجلة، يقول سنهوري إن الحالة الضبابية الراهنة ستتمدد وتنعكس بتداعيات أكثر صعوبة مع اقتراب رمضان، مما يرشح أسعار السلع لمزيد من التصاعد، كما ستلقي تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على الأحوال إثر موقف الحياد الذي أعلنته الخرطوم وهو ما من شأنه التأثير على المشهد سلبا أو إيجابا حسب نتيجة الحرب.
ومن المبكر -من وجهة نظر الخبير الاقتصادي- الحديث عن تأثير قرارات الحكومة الأخيرة لتدارك الموقف لأن إيقاع ارتفاع الأسعار مستمر ليس بسبب الندرة في السلع إنما لعدم اليقين بمآلات الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد، في ظل انسداد الأفق السياسي وعدم تشكيل حكومة انتقالية توافقية ذات مهام محددة تنتهي بانتخابات وتشكيل حكومة مدنية منتخبة.
في المقابل، يعتقد رئيس تجمع الصاغة والمعدنين عاطف أحمد أن قرارات الحكومة الأخيرة مطلوبة ومشجعة لمحاصرة انهيار الأسواق، قائلا للجزيرة نت إن المضاربات وسط التجار سبب الوضع المتردي، وبالتالي فإن القوانين الرادعة حال طبقت فمن شأنها حسم المتلاعبين والمضاربين وحفظ ماء وجه الدولة.
المصدر : الجزيرة