يسعى لبنان إلى إعادة النازحين السوريين من أجل تخفيف عبئهم عن كاهل اقتصاد البلاد المتردي، إذ يقول المسؤولون اللبنانيون إن كلفة استضافتهم تبلغ 30 مليار دولار، مثلما أعلن وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال عصام شرف الدين في 10 يوليو (تموز) أثناء شرحه خطة لإعادتهم بالتنسيق مع السلطات السورية في المرحلة المقبلة.
وبينما تقول السلطة اللبنانية إن عدد النازحين يبلغ قرابة مليون ونصف المليون بين مسجلين في مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (قرابة 865 ألف) وغير مسجلين يمارسون أعمالاً مختلفة، باتت قضيتهم خلافية بين القوى السياسية اللبنانية، فهناك من يستعجل إعادتهم، ومن يخشى تعرضهم للمضايقة والخطف والاعتقال والقتل من قبل النظام السوري، لكن هناك إجماعاً على صعوبة استمرارهم، في وقت وصلت الأوضاع الحياتية بلبنان إلى مستوى مأساوي من نقص في الخدمات الرئيسة.
موقف جديد لميقاتي
وإذ يتصدر السعي لإعادتهم فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحلفاؤه، انضم إليهم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي دعا في 20 يونيو (حزيران) الماضي المجتمع الدولي “إلى التعاون مع لبنان لإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم، وإلا فسيكون للبنان موقف ليس مستحباً على دول الغرب، وهو العمل على إخراج السوريين من لبنان بالطرق القانونية من خلال تطبيق القوانين اللبنانية بحزم”.
ولم يوضح ميقاتي المقصود بتطبيق القوانين، لكن فهم من كلامه أن من لا أوراق شرعية لديه من السلطات اللبنانية، سيُرحّل قسراً، وأن من يزورون سوريا بشكل دوري، ثم يعودون، ستُمنع عودتهم باعتبارهم قادرين على دخول الأراضي السورية والعودة من دون أن يتعرض لهم الأمن السوري، بالتالي هم قادرون على البقاء في بلادهم.
وكان الرئيس عون طالب في خطاب له في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك بدفع المساعدات التي تقدمها مفوضية شؤون اللاجئين إلى هؤلاء على الأرض السورية لتشجيعهم على البقاء فيها، بدل صرفها لهم في لبنان حيث تشجعهم على البقاء. وفيما يقول مسؤولو المفوضية إن المبالغ التي أنفقت على النازحين إلى لبنان بلغت 9 مليارات دولار منذ عام 2015، فإن المفوضية تصر على عودتهم الآمنة والطوعية وفق القوانين الدولية، وتتحدث الأمم المتحدة عن حالات قمع وتعذيب واعتقال لبعض من عادوا، فيما ينفي المسؤولون اللبنانيون ذلك.
محاولات سابقة محدودة
وسبق للبنان أن أعاد بضعة آلاف من هؤلاء إلى سوريا بدءاً من عام 2016، قيل إن عددهم وصل إلى زهاء 70 ألفاً، بينما أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2018 مبادرة مع خطط تفصيلية لإعادة النازحين من سائر الدول التي لجأوا إليها، أي تركيا والأردن ولبنان ومصر وغيرها من الدول الأوروبية أيضاً، على أن تسهم الدول الغربية والأوروبية في تمويل الخطة، نظراً إلى الحاجة لإعمار البنية التحتية في مناطق العودة، إلا أن دول الغرب رفضت التمويل ما لم يحصل تقدم في الحل السياسي.
وكانت موسكو وعدت بدفع الحل السياسي إلى الأمام بعد نجاحها في تثبيت نظام بشار الأسد في مواجهة قوات المعارضة، بالتعاون مع إيران والميليشيات الموالية لها، عبر تدخلها العسكري في سبتمبر (أيلول) 2015.
وخضعت المحاولات السابقة لإعادة النازحين لتجاذب داخلي بين تركيبة السلطة الحاكمة في لبنان والقائمة على تحالف “حزب الله” وقوى “الممانعة” وسوريا الأسد وإيران، وبين أحزاب معارضة من “قوى 14 آذار” السابقة، لأن الأخيرة رفضت الشرط السوري بالانفتاح على الحكومة السورية وتطبيع العلاقة مع النظام، معتبرة أنه لا يريد إعادة النازحين بقدر الإفادة من الانفتاح عليه في ظل العزلة التي يعانيها، بهدف تبرير استخدام لبنان منفذاً من العقوبات للاستيراد والتصدير وتغطية عمليات التهريب عبر الحدود معه.
فشلت المحاولة الروسية، على الرغم من أن موسكو انتزعت من النظام السوري قانون العفو عن الهاربين من الخدمة العسكرية الذي كان حجة رئيسة للمعارضين من النازحين. وكذلك جاءت المحاولات المحلية التي تولاها الأمن العام اللبناني متواضعة، لأن النظام السوري لم يكن قادراً على تلبية التبعات المالية لتلك العودة، من ضمان إيواء العائدين وتأمين المقومات الأساسية لبقائهم في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها بلاد الشام جراء الحصار الغربي بالعقوبات.
خطة “شفهية”
جدد الرئيس عون وفريقه الحملة من أجل إعادة النازحين خلال الشهرين الماضيين بحكم تفاقم الأزمة الاقتصادية اللبنانية من جهة، وبهدف استدراك النقمة على ولاية عون عبر “إنجاز” إعادة النازحين إرضاء لجمهوره من جهة ثانية. وبعد أن أثار وزيرا الخارجية عبدالله بوحبيب والشؤون الاجتماعية هكتور حجار القضية في مؤتمر النازحين في بروكسل في مايو (أيار) الماضي، كلف الوزير شرف الدين وضع خطة لهذا الغرض، جاءت طموحة لأنها تقضي بإعادة 15 ألف نازح شهرياً، لكن تبين كما قال في حديث تلفزيوني في 9 يوليو إن “الخطة التي أطرحها مع السوريين شفهية ولم نجلس بعد لطرح التفاصيل، ونحن جاهزون للنقاش وهناك توجه إيجابي للبدء بعودة النازحين في أسرع وقت، وسأزور سوريا خلال 10 أيام”. وأضاف، “اتفقنا على تشكيل لجنة لبنانية – سورية لتنسيق كيفية العلاقة وتبيان نوعية اللاجئ إذا كان نازحاً أو لاجئاً سياسياً، وطلبنا من المفوضية دفع مساعدات مالية وعينية على الأراضي السورية، وهذا الأمر رفضه ممثل مكتب المفوضية في لبنان آياكي إيتو”. وأقر بوجود خلاف مع المفوضية، إذ تعتبر السلطات اللبنانية والسورية أن “الأمن مستتب في سوريا”، فيما المفوضية تراه غير آمن لإعادة النازحين. لكنه أكد “مهما كان قرار الأمم المتحدة، لبنان سيواصل إعادة النازحين”، قائلاً “هذا حقنا والنازح يعاني أيضاً والدولة السورية فتحت يدها”.
إلا أن معارضة الخطة لم تقتصر على الأمم المتحدة، فانتقدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” المقاربة اللبنانية الرسمية. وقالت مديرة منطقة الشرق الأوسط في المنظمة لما فقيه إن الترحيل القسري إلى سوريا يخالف القانون الدولي، مضيفة أن هناك واجباً دولياً بمساعدة لبنان. ونفت ما تردد عن دفع المنظمة أموالاً مقابل التوطين، موضحة أن “الأموال التي قدمت إلى النازحين أتت عبر سياسة دول تريد تقديم المال في لبنان، ولا يمكن للمفوضية اتخاذ قرار بصرفها في سوريا”.
غطاء لأهداف أخرى
ويتجدد خضوع تلك القضية، كما في المرات السابقة، للتجاذب السياسي الداخلي، بحيث يقول الموالون لمحور الممانعة إن دول الغرب وقوى سياسية لبنانية لا تريد عودة النازحين، بخاصة مع رفض المنظمات الدولية تغطية خطة الفريق الرئاسي، بينما يعتبر فريق آخر أن إثارة الغبار عن قضية النازحين حالياً يأتي بهدف حجب الأنظار عن تعطيل تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة ميقاتي، وعن إخفاق الرئاسة وحلفائها في خفض أضرار الأزمة الاقتصادية المالية الكارثية في البلد وإلصاق التدهور المعيشي بأزمة النازحين.
في المقابل، قال الأمين القطري لـ”حزب البعث الاشتراكي” الموالي للقيادة السورية إنه “ستكون لنا خطوات نعرّي فيها الجهات التي تحاول أن تقول إنه لا توجد رغبة لدى السوريين بأن يغادروا إلى بلادهم، أو أن دمشق غير متحمسة لخطوة كهذه”.
وليس لبنان وحده مسرحاً لاستغلال قضية النازحين لأهداف أخرى، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان برر العملية العسكرية التي أعلنها في أواخر مايو في شمال سوريا، بإقامة منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً بنيّة إعادة مليون نازح سوري في تركيا إليها بعد بناء البنى التحتية فيها، فيما الهدف الأمني -السياسي هو السيطرة على المساحات التي تتولى إدارتها “قوات سوريا الديمقراطية”، وهي فصائل كردية سورية حليفة لـ”الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي تصنفه أنقرة إرهابياً. وكرر الرئيس التركي ما يفيد استعداده لتنفيذ العملية، على الرغم مما يتعرض له من ضغوط ومساعٍ من موسكو وواشنطن وطهران لثنيه عنها.
لوحة التوترات الأمنية
وفيما يتحدث المسؤولون اللبنانيون عن أن الأمن مستتب في سوريا، تبدو لوحة التوترات الأمنية والعسكرية فيها بالغة التعقيد. ويشير المتابعون لتفاصيل الوضع الميداني إلى حالة اللااستقرار الأمني والفلتان في جنوب سوريا نتيجة استمرار التغلغل الإيراني في درعا، حيث نشطت العصابات ومجموعات تهريب المخدرات عبر الأردن، والمواجهات بين الميليشيات الموالية لإيران وبين اللواء الثامن (يضم مسلحين من فصائل المعارضة سابقاً) المنضوي تحت قيادة الفيلق الخامس الذي أنشأته موسكو.
وفي السويداء، تسود حالة مشابهة من الفوضى الأمنية جراء رعاية النظام مجموعات مسلحة تناهضها وتنافسها مجموعات محلية. والأهم ما يجري في مناطق محافظة القنيطرة، حيث نظمت إيران و”حزب الله” مجموعات تحت اسم “المقاومة السورية للاحتلال” التي تتمركز في المناطق القريبة من الحدود مع الجولان السوري، والتي ترصدها إسرائيل وتقصفها بين الحين والآخر، وتستهدف مراكز تخزن فيها الميليشيات الموالية لطهران أسلحة.
اقرأ المزيد
مطالبة لبنان بإعادة اللاجئين السوريين تصطدم بغياب الضمانات الأمنية
لبنان يهدد بإعادة اللاجئين السوريين
استهجان سوري لقرار تركيا إعادة اللاجئين و”قسد” تتعهد بإفشال “مشروع أردوغان”
وتحولت نية أردوغان تنفيذ عملية عسكرية في الشمال، يؤجلها نتيجة ضغوط خارجية، إلى سبب للمخاوف من معارك عنيفة تقود إلى مزيد من النزوح والتهجير بدلاً من إعادة النازحين، لا سيما بعد تضامن إيران مع النظام السوري في التهيؤ لصد هذه العملية.
ويشير المتابعون لمسألة المساعدات لسوريا التي تهدف إلى التخفيف من الأوضاع المأساوية للنازحين داخلها، إلى انعكاس تصاعد الصراع الغربي الروسي بسبب حرب أوكرانيا عليها، بدليل ممارسة موسكو الجمعة في 8 يوليو حق النقض في مجلس الأمن على تمديد قرار إدخال المساعدات الإنسانية إلى السوريين عبر معبر باب الهوى على الحدود التركية السورية لمدة عام إضافي، بدلاً من مرورها عبر دمشق.
الجانب الروسي كان وافق على هذا القرار قبل سنتين مدركاً بأن الهدف إفادة المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة أو تركيا لا النظام، لكن موسكو ترسل إشارات عبر هذا الموقف وغيره، مثل إنزال مظليين في مطار القامشلي العسكري، القريب من أماكن وجود القوات الخاصة الأميركية في منطقة الحسكة، إلى أنها لن تتساهل مع إضعاف نظام الأسد ومناطقه في سياق المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية.
موسكو عدلت قليلاً من موقفها، وعادت فوافقت على العمل بقرار إدخال المساعدات لمدة 6 أشهر فقط في جلسة 11 يوليو. وهذا يعني إقحام قضية النازحين، سواء كانوا من الموجودين في مناطق النظام أو كانوا من العائدين، في وضعية صعبة بين فكَّي كماشة الصراع الدولي، فالدول الغربية والمانحة باتت أكثر سلبية حيال النظام السوري حتى في ما يخص المساعدات الإنسانية بسبب تضامنه مع موسكو في حرب أوكرانيا.
اندبندت عربي