في يوم وفاته، أمس الأربعاء، عن 91 عاما، أظهر ساسة مختلفون سياسيا وأيديولوجيا في العالم، كل من المنظور الذي تأثرت فيه بلاده، عن تقديرهم لأهمية ميخائيل غورباتشيف السياسية عالميا، ولدور حقبته في التغيير التاريخي الكبير الذي حصل خلالها.
كان مثيرا للتأمل أن يضم صفّ المودّعين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أشار إلى أن غورباتشيف «أدرك جيدا أن الإصلاحات ضرورية»، وأنه «قاد بلادنا خلال فترة من التغييرات المعقدات والمؤثرة وتحديات سياسية كبيرة خارجية واقتصادية واجتماعية»، و«كان له تأثير كبير على تطور تاريخ العالم».
كان مهمّا أيضا أن نسمع رأي وزارة الخارجية الصينية التي أشادت بالدور الذي لعبه آخر رئيس للاتحاد السوفييتي في التقارب بين بكين وموسكو بعد قطيعة استمرت ثلاثة عقود، وكذلك حديث أنغيلا ميركل، المستشارة السابقة لألمانيا التي قالت إن الرئيس الأخير للحزب الشيوعي السوفييتي «كتب تاريخ العالم»، شاكرة إياه على دوره في إعادة توحيد بلادها، بعد أن قطع دعمه لنخبة ألمانيا الشرقية الحاكمة، مما أدى لانهيار جدار برلين، ثم انهيار النظام نفسه.
كانت الصين سباقة ضمن النظم الشيوعية في البدء بالإصلاحات عام 1978، وربما كان ذلك الإصلاح الذي تدير فيه النخبة الشيوعية الحاكمة إدارة دولة رأسمالية هو النموذج في ذهن غورباتشيف وزملائه الذين ساهم في صعودهم للقيادة، فهو كان مؤمنا بحاجة الاتحاد السوفييتي للتغيير والانفتاح على العالم ولكنه كان ما يزال يعتقد بإمكانية الحفاظ على حزب واحد حاكم، وعلى ضبط تداعيات «الشفافية» و«إعادة البناء» على روسيا والأمم الأخرى المنضوية تحت الاتحاد السوفييتي و«المعسكر الاشتراكي».
غيّر حدث سقوط الاتحاد السوفييتي العالم، بدءا من روسيا التي صارت جمهورية اتحادية تدير قسما كبيرا من امبراطوريتها القديمة، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي، التي نال كثير منها استقلاله، لكن بعضها ظل خاضعا للتأثير الروسي، ودول أوروبا الشرقية التي اتجهت للالتحاق بالاتحاد الأوروبي.
ظهر التأثير الأكبر لحلّ الاتحاد السوفييتي في أوروبا، حيث اتحدت الألمانيتان، وأصبحت بولندا وهنغاريا وبلغاريا دولا فاعلة في الاتحاد الأوروبي، ونشأت جمهوريتا تشيكيا وسلوفاكيا، كما أدى ذلك إلى حرب في يوغوسلافيا أدت لظهور دول اتحاد صربيا والجبل الأسود، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، وسلوفينيا.
من المثير للتفكر أن الأثر كان معكوسا في علاقة المنظومة العربية بالاتحاد السوفييتي حيث أن قرار دول أوبك، والتي للدول العربية الحصة الوازنة فيها، خفض أسعار النفط في الثمانينات، ساهم، بالترافق مع كارثة محطة تشيرنوبيل النووية، ومع دعم الجهاديين الأفغان الذي أدى لخروج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان عام 1988، في التأثير بشدة على الاقتصاد العاجز للاتحاد السوفييتي، وهو ما فرمل خطط غورباتشيف للمحافظة على المنظومة الاشتراكية والإصلاح من الداخل (كما فعل الصينيون).
لقد ساهمت المنظومة العربية، ضمن هذا المنظور التاريخي الآنف، في سقوط الاتحاد السوفييتي، لكنّها، من جهة أخرى، جابهت احتمالات توسع المدّ التحرري الذي اجتاح أوروبا، وكان مجرّد التعاطف مع شعوب أوروبا أو الفرح لسقوط بعض المستبدين فيها، مثل تشاوشيسكو في رومانيا، سببا في اعتقال بعض السلطات العربية لمواطنيها.
رفض المنظومة العربية للتغيير ولرياح التحرر والاستقلال والديمقراطية ونشر الحريات السياسية ساهم عمليا في هبوب رياح سوداء أخرى، فقد عانى الفلسطينيون من استغلال إسرائيل رحيل الاتحاد السوفييتي لفتح أبواب الهجرة على مصاريعها لليهود من روسيا والجمهوريات السوفييتية، وأصبح كثير من هؤلاء مددا لليمين العنصري الإسرائيلي، وأدى رفض السلطات نتائج الانتخابات الديمقراطية في الجزائر (عام 1991 الذي شهد حل الاتحاد السوفييتي) إلى العشرية السوداء، وتابع النظام في سوريا التي كانت ترزح تحت آلام تداعيات حرب النظام على الإسلاميين في الثمانينيات سياساته القمعية، واجتاحت القوات العراقية الكويت عام 1990 مما أدى لحرب دولية ضد العراق، ثم حصار طويل أفقر البلاد، وصولا إلى الاجتياح الأمريكي له عام 2003، وساهم ترك أفغانستان لمصيرها وغسل الدول العربية أيديها من مجاهديها إلى انقلابهم عليها، وتشاركت كل هذه الأحداث، عمليا، في صنع مشهد الخراب العربي العامّ الذي نشهده حاليا.
القدس العربي