بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية لا يزال من غير الواضح كيف ستنتهي هذه الحرب. فلا تلوح في الأفق بوادر لحل سياسي ينهي الصراع الذي ذهب ضحيته عشرات الآلاف من القتلى والملايين من النازحين، وتسبَّبَ في أزمات اقتصادية أربكت دول العالم. على العكس من ذلك، امتدت الحرب لجبهات جديدة في شبه جزيرة القرم وعمليات نوعية لتفجير مستودعات تجمّع الذخيرة، سبقتها عملية استخباراتية استهدفت ابنة أحد أنصار بوتين المقربين بسيارة مفخخة في ضواحي موسكو، يُعتَقدُ أنه كان المقصود بها. فهل ستشهد الحرب مرحلة جديدة في الصراع مع مزيد من التصعيد الروسي للردِّ على الضربات الأوكرانية في شبه جزيرة القرم؟ وهل تستمر أوكرانيا ومعها حلفاؤها في إطالة أمد الحرب عن قصدٍ ودون سقف زمني محدد بهدف إرهاق الدبِّ الروسيِّ واستنزاف قواته؟
يستمر استبعاد الحلِّ الدبلوماسيِّ لإنهاء الحرب الممتدة منذ نصف عام في ضوء أن أوكرانيا لا تميل إلى التضحية بأي أرض أخرى، كما أنها لا تثق في بوتين للالتزام بأي إجراءات لوقف الحرب، خاصة مع غياب أي وسيط يمكن أن يكون ضامنا فعالا، فيما لا يستطيع بوتين- في المقابل- تحمل العودة إلى الوراء دون تحقيق بعض الانتصارات التي تحفظ ماء الوجه.
سقوط الفرضيات وتغير المعادلات:
بينما أحيت أوكرانيا ذكرى انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في 24 أغسطس 1991 ، تُقدم ساحة المعركة في هذه الأثناء دروساً جديدة كل يوم، في مقدمتها افتراض أن الطرف الأقوى عسكريًا ينتصر بسرعة ثبت أنه افتراض لا يعكس بالضرورة معادلة صحيحة: عندما بدأ الغزو، اعتقد الكثيرون أن كييف ستسقط في غضون أيام، ومع ذلك جاء الدعم الخارجي وتعزّزت الروح المعنوية لتبطِّئ الوصول لنقطة الحسم. يفسر الجانب الروسي هذا التباطؤ بحجة تقليل الخسائر في صفوف المدنيين، غير أنَّ أوكرانيا وحلفاءها يعوِّلون على إطالة أمد الحرب بهدف إنهاك روسيا. ولم تنف موسكو هذا التكتيك المتعمِّد من جانب كييف وبتخطيط من الحليف الأمريكي، حيث إنَّ خطة الحرب وتكتيكاتها تُصنعُ أيضاً في مكاتب قادة البنتاجون، ويعلق وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويجو، على هذا التغير في التكتيك بأن “هدف واشنطن في أوكرانيا هو إنهاك روسيا استراتيجياً للقضاء على المنافسة وتحذير الدول الأخرى”. وأضاف خلال اجتماع لوزراء دفاع منظمة شنغهاي للتعاون، المنعقد في أوزبكستان حاليا، أن “إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها يضاعف عدد الخسائر البشرية بما يطيل أمد الصراع العسكري على أراضي هذا البلد، بهدف مواصلة الضغط على روسيا وعزلها”.
ولفت شويجو إلى أن “البرنامج البيولوجي العسكري الأمريكي الذي تم الكشف عن تفاصيله خلال العملية الخاصة في أوكرانيا يشكل تهديدا مباشرا، ليس لروسيا فقط، وإنما لدول منظمة شنغهاي للتعاون”. وبالتزامن مع ذلك، جاء إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن عن حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا فاقت ثلاثة مليارات من الدولارات، وهو ما يعكس أنَّ تعديل خطة الحرب يتجه إلى إطالتها لشهور أو ربما لسنوات. وأضاف بايدن، عشية احتفال أوكرانيا بالذكرى الحادية والثلاثين لاستقلالها عن الاتحاد السوفيتي، أن الهدف من المساعدات التي تجاوزت في مجموعها 13 مليار دولار طوال الشهور الستة الماضية هو ضمان استمرار أوكرانيا في الدفاع عن نفسها لفترة طويلة. وسوف تسهم المساعدات النوعية في تعزيز أنظمة الدفاع الجوي والمدفعية والذخيرة والرادار، وهو ما يشكل تعديلا استراتيجيا في ميزان القوى لتعزيز القدرات الأوكرانية في مواجهة روسيا التي تفوقها بشكل كبير، خاصة في السلاح الجوي وعدد القوات. وهكذا، فإن الحرب ضد أوكرانيا التي بدأت 24 فبراير الماضي كعملية عسكرية خاصة ومحدودة لحماية إقليم دونباس، ووقف مخاطر تمدّدِ حلف شمال الأطلسي “ناتو” نحو حدودها عبر أوكرانيا، لم تقف عند هذا الحد، وساهم اندفاع الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لتسليح أوكرانيا في صمود القوات الأوكرانية، وهو الأمر الذي يثير حفيظة موسكو باستمرار وتعتبره استفزازا هدفه إطالة أمد الحرب.
ولعل الحزمة الجديدة من المساعدات العسكرية الأمريكية لكييف تنذر بدخول حرب أوكرانيا مرحلة جديدة أكثر شراسة. ورغم كون الدعم السابق من حلفاء أوكرانيا لم يكن كافياً حتى الآن لتتمكن قواتها من استرداد الأراضي التي تقع تحت سيطرة الروس، إلا أنه نجح في عرقلة تقدم القوات الروسية في العديد من المواقع. كما يُعوّلُ على الإمدادات الجديدة من الأسلحة الأمريكية لزيادة قدرات القوات الأوكرانية وسد العجز في بعض أنواع الأسلحة الهجومية من أجل تحقيق تطور نوعي في أساليب القتال على أرض المعركة، وهذا من شأنه أن يعزز الأمل لدى كييف وحلفائها باسترداد القوات الأوكرانية للأراضي التي سيطرت عليها روسيا ليس فقط منذ بدء عمليتها، فبراير الماضي، وإنما منذ عام2014عندما ضمت شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا. ولا يبدو أن الحليف الأمريكيّ مدرك لخطورة إطالة أمد الحرب وما قد تسببه من مزيد الخسائر الكارثية على اقتصاديات دول العالم. فالعقوبات المفروضة على روسيا، ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، وأكبر مصدر عالمي للغاز الطبيعي والقمح وأسمدة النيتروجين والبلاديوم، قفزت بأسعار النفط العالمية إلى أعلى مستوياتها منذ المستويات القياسية التي سجلتها عام 2008. وقد تسببت محاولات خفض الاعتماد على منتجات النفط والغاز الروسية، أو حتى تحديد سقف لها في تفاقم أسوأ أزمة طاقة يشهدها العالم منذ حظر النفط العربي خلال حرب أكتوبر 1973.
ضربات نوعية انتقامية:
من أهم الدروس التي يتابعها العالم “متضجِّراً” أنَّ خوض الحروب يتمُّ جزئيًا فقط في ساحة المعارك، لكنَّ أشكالها الأخرى تتمُّ في ساحات أخرى بين أجهزة أمنية دولية، وخسائرها لا تقاس بفقدِ الأرواحِ وإنما أيضاً بضرباتٍ نوعيةٍ هنا وهناك، في محاولة لـ “كسر عظام” أجهزة الاستخبارات المتصارعة لإلحاق العار بعضها بعضا. وهو ما حدث على- سبيل المثال- مؤخراً عند اختراق الحدود والوصول إلى استهداف الصحفية داريا دوجين ابنة المفكر الروسي المُلقَّب بـ “عقل بوتين” أو “راسبوتين بوتين” وتمَّ اغتيالها بتفجير سيارتها المُفخَّخة، في عملية نوعية خططت لها ونفذتها الأجهزة الاستخباراتية الأوكرانية، بحسب ما ذكرته أجهزة الأمن الفيدرالي الروسي. وقد نشرت وسائل إعلام روسية صور وبطاقة هوية منفذة الجريمة، وهي الأوكرانية ناتاليا شابان “فوفك” التي وصلت إلى موسكو قبل شهر من العملية برفقة ابنتها، واستأجرت شقة في المبنى الذي تعيش فيه داريا من أجل جمع معلومات حولها ومراقبتها. وقد فرّت فوفك بعد تنفيذ الجريمة عبر منطقة بسكوف إلى استونيا بحسب معلومات الأمن الروسي، قبل أن تتمكّنَ الشرطة الروسية من القبض عليها. في المقابل، سخر المسئولون الأوكرانيون من هذه النظرية، ونفوا أي صلة لهم بالهجوم، كما وصف المستشار الرئاسي ميخايلو بودولياك رواية جهاز الأمن الروسي بأنها “دعاية روسية من عالم خيالي”.
داريا دوجين، التي نعاها والدها صاحب الأيديولوجية القومية المناهضة للغرب معتبراً أنها “ماتت من أجل روسيا على خط المواجهة”، كان لها حضور كبير في وسائل الإعلام، منذ بدء الحرب على أوكرانيا، إذ تبنت خطابا مناهضا لأوكرانيا ومعاديا للغرب مثل والدها، وتحظى أفكارهما بترحيب بين بعض النخب السياسية الروسية. وتروّجُ داريا في مداخلاتها إلى دور روسيا الجيوسياسيّ في كسر شوكة الولايات المتحدة الأمريكية ونفوذها المتوسع في أرجاء العالم والعمل على تحديّ هذه الهيمنة بمساعدة الصين وإيران وحلفاء آخرين، منهم الأحزاب المناهضة لفكرة الاتحاد الأوروبي، أو ما يُعرفُ باليمين الجديد المعادي لليبراليين. وتستخدم داريا الاسم المستعار “بلاتونوفا”، الذي يقال إنه مرتبط بولعها بالفيلسوف الإغريقي أفلاطون موضوع رسالتها للدكتوراه. وقد تحدثت لعدد من القنوات التليفزيونية عن استعادة الموقع والمكانة العظيمين لروسيا من خلال ظهيرها الشرقي: أوكرانيا وبيلاروسيا اللذين تعتبرهما حدودا طبيعية لروسيا مع الغرب. وقد أيدت الحرب الروسية ضد أوكرانيا واعتبرتها تحقيقاً لفكرة الإمبراطورية الروسية. وزارت مصانع الصلب في آزوفستال، بعد فترة وجيزة من اجتياح القوات الروسية لمدينة ماريوبول التي كانت محاصرة لفترة طويلة. وقبل مقتلها وضعتها بريطانيا على قائمة عقوباتها باعتبارها من المساهمين في التضليل الإعلامي بشأن الحرب على أوكرانيا، وكانت تستعدُّ لنشر كتاب “ذي بوك أوف زاد” الذي يضمُّ مجموعة من الشهادات حول الحرب على أوكرانيا”. ويرمزُ حرف “زاد” باللاتينية للعملية الروسية ضد أوكرانيا حيث حملت المركبات العسكرية وأفراد القوات الروسية هذا الحرف طوال الأشهر الستة الماضية. ونظراً لهذا السجلِّ المناهض للغرب، فإن العديد من المراقبين لا يستبعدون أن تكون عدة أجهزة مخابرات غربية قد تعاونت في تصفية داريا، كما أنهم لا يستبعدون أيضاً أن تكون المعارضة الروسية نفسها قد استهدفتها، أو استهدفت- في الأصل- والدها.
جبهة جديدة للحرب بشبه جزيرة القرم:
تطور جديد شهدته الحرب الروسية – الأوكرانية بفتحها جبهة أخرى للصراع في شبه جزيرة القرم هذه المرة. وهو ما أشار إليه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عندما ذكر “إن الحرب الدائرة في بلده بدأت في شبه جزيرة القرم ويجب أن تنتهي بتحريرها”، وهذا يعني أنَّ هدف أوكرانيا الآن أصبح استرجاع جميع أراضيها، بما في ذلك شبه الجزيرة التي ضمتها روسيا إليها عام 2014. وجاءت تصريحات زيلينسكي بعد ساعات فقط من وقوع سلسلة انفجارات في قاعدة جوية روسية في شبه جزيرة القرم. ومن الملاحظ أن موجة الانفجارات في شبه الجزيرة قد عزّزت الروح المعنوية والمزاج العام في أوكرانيا، خاصة بعد تدمير تسع طائرات حربية روسية في قاعدة ساكي الجوية في شبه الجزيرة. وكانت انفجارات قد طالت قاعدة بيلبيك الجوية، فضلا عن حريق في مستودع ذخيرة داخل روسيا؛ لكنَّ روسيا نسبتها إلى “مخرّبين”. بينما تؤكد الحقيقة أنَّ أوكرانيا وحلفاءها في حلف الأطلسي كانوا حريصين على عدم تجاوز بعض الخطوط الحُمر، منها عدم الاقتراب من الأراضي الروسية بما في ذلك منطقة القرم، وعدم التعرض للقطع البحرية لعدم فتح جبهات جديدة، لكنهم قرروا تجاوز تلك الخطوط الحُمر على ما يبدو. وقد كانت البداية بإغراق قطعة بحرية روسية مهمة فى البحر الأسود، تلى ذلك هجوم على قاعدة جوية روسية، وتبعها انفجار كبير فى مناطق تعبئة الذخائر. وتم بذلك اختراق حواجز الأمان التي كانت روسيا تفرضها في شبه جزيرة القرم، حيث كان السياح يستمتعون بأشعة الشمس الساطعة على الشواطئ بعيدين كل البعد عن مجال المعارك وها هم الآن يفرون من الرمال مع أعمدة من الدخان الأسود والأحمر تتصاعد في سماء شبه الجزيرة. وردّت روسيا بقصف الميناء الأوكراني الوحيد على البحر الأسود، وهو ميناء أوديا، لتصبح الحرب في القرم أحدث فصول هذا الصراع.
هذا التغير الواضح في الخطة والرؤية لسير المعارك ومحاولة إطالتها وتنويع جبهاتها أمرٌ محيِّرٌ للكثير من المراقبين. ويفسر بعضهم الخطة الجديدة بحاجة كييف باستمرار إلى إشعال هدف متجدد في الداخل، لأنه قد يكون كفيلاً بالحفاظ على الوحدة الوطنية وتحفيز السواعد والهمم التي تُسمَّى في الحروب النفسية حالة التعبئة العامّة. فمن الملاحظ أنَّ الشعور بالارتياح والاعتزاز بصدِّ الهجوم الروسي الأولي قد تلاشى تدريجياً وابتلعته الضغوط التي تسبَّبت فيها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الطاحنة وثقل حجم الخسائر. لذلك، تحتاج كييف الآن، وفقاً لهذه القراءة، إلى زعزعة ثقة موسكو وخفض الروح المعنوية للقوات الروسية. ولعله من بين الدروس أيضاً في هذه الحروبِ أن الخسائر المتتالية الموجعة تجعل الخاسرَ يقدمُ على المغامرة- بل المقامرة- في اتجاهات عدة، مثل “الطائر المذبوح”. وهو ما حدث فى أوكرانيا بعد خسائر جسيمة فى مدينة بعد أخرى وقوات بعد أخرى.
أخيرًا، اتجهت كييف بشكلٍ ملحٍّ إلى مرحلة جديدة في حربها في مواجهة روسيا، فقامت بتغيير خطتها وفتحت جبهات أخرى للحفاظ على الدعم الخارجي وخلق حالة استنفار عامّ داخليّ. كانت قصة “المستضعف” الشجاع الذي تصدى لغزو “شرس” كافية لخلق موجة من التعاطف الإنساني والدعم السياسي في جميع أنحاء أوروبا في الربيع الماضي؛ وفي ضوء تعدد فصول الحرب وإطالة أمدها لم يعد التعاطف والدعم مضمونين كما أن حسم النتيجة مازال بعيد المنال، خلافًا لما رافق الشرارة الأولى للحرب من حماس. ورغم الدعم الأمريكي “السخيّ”لـ كييف، فمن غير المرجح أن يستمر هذا الإنفاق على تسليح القوات الأوكرانية بلا سقفٍ لدى الإدارة الأمريكية، خاصة في ضوء زيادة سخونة المعارك الانتخابية مع قرب التجديد النصفي للكونجرس. كما أنه من المرجح- في المقابل- أن يصبح السياسيون قادة العواصم الأوروبية أكثر حذراً في توسيع دعمهم لأوكرانيا ومعاقبة روسيا، مع استمرار ارتفاع أسعار الوقود باقتراب فصل الشتاء وانحسار التعاطف والتضامن الشعبي مع كييف عندما تتراجع القدرة الشرائية للأوروبيين وتزداد تدهوراً مع ارتفاع معدلات التضخم.
مركز الأهرام للدراسات