شهد العراق في الساعات الـ24 الماضية سلسلة من أعمال العنف أسفرت عن سقوط ما لا يقل عن 20 شخصا، بعد اشتباكات بين أنصار التيار الصدري من جهة، وقوات الأمن وأنصار تحالف الإطار التنسيقي من جهة أخرى.
جاءت تلك الاشتباكات عقب إعلان زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر اعتزاله الحياة السياسية.
وتعد هذه التطورات الأحدث في إطار أزمة سياسية تعصف بالبلاد منذ أكثر من عشرة شهور أثارها الإخفاق المستمر في التوصل إلى تشكيل حكومة ائتلاف وطنية.
فما أبرز فصول هذه الأزمة؟
شكلت الانتخابات المبكرة في أكتوبر/تشرين الأول 2021 نقطة تحول مفصلية في العراق، وكانت الخامسة منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.
وقد قالت السلطات العراقية إن تلك الانتخابات المبكرة جاءت استجابة لمطالب المحتجين عام 2019 والتي أدت إلى الإطاحة بالحكومة
أسفرت الانتخابات عن فوز التيار الصدري، بحصوله على 73 مقعداً من مجموع 329 مقعداً في البرلمان، لكن هذا الفوز لم يمكن الكتلة الصدرية من تشكيل حكومة أغلبية لوحدها، وكان لا بد من تحالف لتشكيل حكومة ائتلاف وطنية.
لكن في بلد تحكمه المحاصصة على أساس طائفي زاد عدم التوصل إلى اتفاق من تعقيد المشهد، وكان المعتاد في الدورات السابقة أن تتوافق أحزاب الأغلبية الشيعية لتشكيل حكومة، وفقا للعرف المتبع منذ أول انتخابات أجريت بعد الإطاحة بالنظام السابق، يكون فيه رئيس الوزراء شيعياً، ورئيس الجمهورية كردياً، ورئيس البرلمان سنياً.
وخروجا على المعتاد شكل التيار الصدري تحالف “إنقاذ وطن” مع ائتلاف سني والحزب الديمقراطي الكردستاني، ورشح محمد الحلبوسي رئيسا للبرلمان والسياسي الكردي هوشيار زيباري رئيسا للجمهورية، وجعفر محمد باقر الصدر رئيسا للحكومة.
لكنه لم يتمكن من تشكيل حكومة لأن الأسماء التي اقترحها واجهت اعتراضات من قبل ائتلاف “الإطار التنسيقي” الشيعي المنافس، الذي يضم فصائل مدعومة من إيران وتحالف رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
ولطالما أصر زعيم التيار، مقتدى الصدر، على تشكيل حكومة “أغلبية وطنية” بينما يريد قادة الإطار التنسيقي العودة إلى أسلوب التوافق المتبع في الدورات السابقة.
في 12 يونيو/حزيران الماضي، استقال نواب الكتلة الصدرية، بإيعاز من زعميها، بعد تعثر تشكيل الحكومة. وأجرى الإطار التنسيقي مباحثات مع الأكراد والسنة لتشكيل الحكومة، واختار بتاريخ 26 يوليو/تموز الماضي، محمد شياع السوداني، مرشحا لرئاستها.
لكن أنصار الصدر، ورفضا لترشيح السوداني، الذي يعتبرونه من الموالين للمالكي، اقتحموا في 30 يوليو/تموز، مبنى البرلمان واعتصموا داخله مما أشعل فتيل احتجاجات مضادة.
وفي العاشر من أغسطس/ آب، أمهل الصدر مجلس القضاء الأعلى أسبوعا واحدا لحل البرلمان لإنهاء المأزق السياسي، لكن المجلس قرر أنه يفتقر إلى السلطة للقيام بذلك.
في 23 أغسطس/آب امتد اعتصام أنصار الصدر إلى مبنى مجلس القضاء للتأكيد على المطالبة بحل البرلمان وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
الحائري والمرجعية الشيعية
في 28 أغسطس/ آب أعلن رجل الدين الشيعي كاظم الحائري، الذي يعد مرجعية دينية للتيار الصدري، اعتزاله العمل الديني لأسباب صحية، ودعا لاتباع قيادة المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي.
لكن بيان اعتزال الحائري حمل في طياته تحذيرا ضمنيا للصدر إذ قال: “على أبناء الشهيدين الصدريين أن يعرفوا أن حب الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقي لأهدافهما التي ضحيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين أو يتصدى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو – في الحقيقة- ليس صدرياً مهما ادعى أو انتسب”.
لكن الصدر سارع في الرد على الحائري، وقال في تغريدة له على تويتر: “يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولا ومن فضل والدي محمد صادق الصدر الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه”.
وذهب الصدر إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ قال إن اعتزال الحائري “لم يكن بمحض إرادته”، مضيفا: “إنني لم أدعِّ يوما العصمة أو الاجتهاد ولا حتى القيادة، إنما أنا آمر بالمعروف وناه عن المنكر… وما أردت إلا أن أقربهم إلى شعبهم وأن يشعروا بمعاناته”، في إشارة إلى القوى السياسية الشيعية المنضوية فيما يعرف بـ”الإطار التنسيقي”.
الأزمة تبلغ ذروتها
وفي 29 أغسطس/ آب بلغت الأزمة ذروتها بعد إعلان مقتدى الصدر اعتزال الحياة السياسية، مما أسفر عن توسع الاحتجاجات واقتحام أنصار تياره لعدد من المؤسسات الحكومية، من بينها القصر الجمهوري.
وعززت السلطات العراقية وجودها الأمني في المنطقة الخضراء وأعلنت حظرا للتجوال في بغداد ثم في جميع محافظات البلاد.
واندلعت اشتباكات بين أنصار التيار الصدري من جهة، وقوات الأمن ومناصري الإطار التنسيقي المناوئ لمقتدى الصدر من جهة ثانية، أسفرت عن وقوع عدد من الضحايا.
في 30 آب / أغسطس دعا الصدر أنصاره لفض الاعتصام، منددا بأعمال العنف التي شهدها العراق خلال الساعات الأربع والعشرين الأخيرة، والسلطات العراقية في المقابل رفعت حظر التجوال بعد بدء انسحاب أنصار التيار الصدري.
أبرز أطراف الأزمة:
التيار الصدري
يمثل أنصار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر قوة لا يستهان بها في الشارع العراقي، وقد فاز التيار بأكبر كتلة برلمانية في الانتخابات الأخيرة قبل استقالة نوابه.
ينحدر مقتدى الصدر من أسرة دينية عريقة، فهو الابن الأصغر للمرجع الشيعي آية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل في عام 1999 على يد مسلحين يعتقد أنهم عملاء لصدام حسين، ووالد زوجته هو المرجع الديني والمفكر الإسلامي آية الله العظمى محمد باقر الصدر الذي أعدمه نظام صدام حسين عام 1980.
وقد كشف انهيار نظام الصدر عن مكامن قوة التيار الصدري التي تتمثل في شبكة من المؤسسات الخيرية التي أسسها والد مقتدى الصدر. وتميزت مواقفه بمعارضة الوجود العسكري الأمريكي في أعقاب غزو العراق عام 2003، حيث أسس “جيش المهدي” لمناهضة التحالف الأمريكي في بلاده.
ويمزج الصدر بين نزعة وطنية عراقية وتوجهات دينية، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة لدى الكثير من فقراء الشيعة في البلاد. ويقدم الصدر نفسه على أنه خصم للنخبة السياسية – رغم أن أنصاره موجودون في قلب المؤسسات الحيوية في العراق – ويتمتع برأي كثيرين بالقدرة على تشكيل حكومات أو إسقاطها.
وقد نجح الصدر في تثبيت نفسه كأكبر قوة سياسية في العراق خلال الانتخابات الأخيرة، حيث يرى أنصاره أنه بطل للقومية العراقية. ولكن خصومه يرون أن مواقفه السياسية متقلبة، وأنه لا يعتزم التخلي عن السلطة لخصومه من أبناء الطائفة الشيعية، الذين يطالبهم بقبول حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة.
ورغم أنه طلب من نوابه تقديم استقالتهم في البرلمان لإتاحة الفرصة لخصومه لتشكيل حكومة في يونيو/حزيران الماضي، فقد عاد ودعاهم إلى اقتحام مجلس النواب والاعتصام في حدائقه في أواخر تموز/يوليو احتجاجا على ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء.
الإطار التنسيقي
تشكل في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بغية التنسيق بين مواقف القوى الشيعية التي أعلنت رفضها للنتائج الأولية للانتخابات المبكرة التي أجريت في نفس الشهر وطالبت بإعادة فرز الأصوات يدويا بعد تقلص عدد المقاعد التي فازت بها مقارنة بانتخابات عام 2018.
الإطار ضم فصائل الحشد الشعبي ومجموعة من القوى التي توصف بأنها متحالفة مع إيران، وهي “ائتلاف دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، و”تحالف الفتح” بزعامة هادي العامري، و”حركة عطاء” و”حركة حقوق” و”حزب الفضيلة”، و”تحالف قوى الدولة” بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وعمار الحكيم.
في يونيو/حزيران 2022، أضحى الإطار التنسيقي أكبر قوة في البرلمان العراقي بعد استقالة جميع نواب الكتلة الصدرية، وأعلن انفتاحه على كافة القوى السياسية من أجل تشكيل الحكومة، ويعد المالكي والعامري من أبرز زعمائه ومن الأطراف الرئيسية في الصراع مع الصدر.
هادي العامري
شغل العامري (68 عاما) في السابق منصب وزير المواصلات، ويصفه خصومه بأنه “رجل إيران” في بغداد. وقد كلفه نوري المالكي عام 2014 بالإشراف على المعركة ضد تنظيم الدولة في شرق البلاد.
تولى العامري منصب قيادة ميليشيا فيلق بدر التي توصف بأنها موالية لإيران. وقام بإدماج الميليشيا في منظمة شبه عسكرية نافذة هي قوات الحشد الشعبي التي لعبت دورا كبيرا في التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية. وقد اتهمت قوات العامري بارتكاب انتهاكات واسعة بحق المواطنين من الطائفة السنية في المناطق التي دخلتها وهي اتهامات ينفيها العامري وجماعته.
وأنشأ العامري “تحالف الفتح” – وهو الواجهة السياسية للحشد الشعبي الذي انضم مقاتلوه إلى القوات النظامية في الجيش العراقي، وفاز ب48 مقعدا من أصل 329 مقعدا في انتخابات عام 2018، مما جعله ثاني أكبر كتلة سياسية في البرلمان بعد التيار الصدري.
واتهم العامري بإدارة “فرق الموت” التي كانت تخطف وتقتل على الهوية خلال أعمال العنف الطائفي التي شهدها العراق.
وفي الانتخابات التشريعية الأخيرة، تراجع تحالف الفتح بشكل كبير، إذ لم يحصل سوى على 17 مقعدا بعد أن كان ثاني أكبر كتلة في البرلمان.
نوري المالكي
تولى المالكي رئاسة وزراء العراق في عام 2006، واضطر إلى التخلي عن منصبه عام 2014 بعد تعرضه لضغوط داخل العراق وخارجه. ويقول منتقدوه إن الأعوام الثمانية التي قضاها في السلطة اتسمت البلاد خلالها بالفوضى، وإن سياسته التسلطية والطائفية، على حد تعبيرهم، أفسحت المجال أمام جهاديي تنظيم الدولة للسيطرة على مناطق في العراق.
ورغم أنه بعيد عن السلطة، إلا أن المالكي البالغ من العمر 72 يظل مقربا من أوساط الحكم ويتمتع بنفوذ على الساحة الشيعية بفضل تحالفه مع هادي العامري. وقد أعيد انتخابه نائبا في البرلمان خلال انتخابات عام 2021.
السوداني: مرشح رئاسة الوزراء محل الخلاف
بدأ السياسي المخضرم محمد شياع السوداني مسيرته بانضمامه إلى حزب الدعوة/تنظيم الداخل. وفي أعقاب سقوط نظام صدام، شغل العديد من المناصب الحكومية، حيث تولى منصب محافظ ميسان، ووزير حقوق الإنسان، وفاز بعضوية مجلس النواب عن ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي لثلاث فترات متتالية. كما شغل منصب وزير العمل والشؤون الاجتماعية في وزارة حيدر العبادي عام 2018.
وطرح اسم السوداني من بين عدد من الأسماء المرشحة لتولي رئاسة الحكومة بعد استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، ولكن التيار الصدري اعترض على ترشحه، كما طالب متظاهرون بشخصيات من خارج الطبقة السياسية المهيمنة على مقاليد الحكم.
ويحظى ترشح السوداني الأخير لرئاسة الوزراء بدعم قوى الإطار التنسيقي ورفض التيار الصدري. وكان من المتوقع الموافقة على ترشيحه خلال الجلسة البرلمانية المقبلة مع غياب نواب الكتلة الصدرية.
بي بي سي عربي