تعني أي سياسة خارجية فعالة مواجهة الحقيقة بعيون واضحة: لا يمكن لأوكرانيا أن تهزم روسيا، الدولة التي تتمتع بعشرة أضعاف قوتها النارية.
والأكثر من ذلك، أن العقوبات الاقتصادية لا يمكن أن تسقط فلاديمير بوتين. وليس أمام الغرب سوى خيار واحد.
* *
برلين – دعونا نزيح شيئاً واحداً من الطريق منذ البداية: لم يكن لدى الغرب أي بديل عن السياسات التي تبناها في التعامل مع روسيا بعد غزو أوكرانيا.
ولو لم تستخدم الولايات المتحدة وأوروبا كل الأسلحة الاقتصادية والدبلوماسية المتاحة لهما -لتقفا فقط قبل خطوة من الانجرار إلى الصراع بنفسيهما– لكان فلاديمير بوتين قد قرأ مثل هذا الرد اللامبالي العلامة على الضعف.
وكان سيرى في ذلك دعوة إلى توسيع طموحاته حتى أبعد إلى الغرب.
تلعب ألمانيا دوراً مهمًا في التحالفات بين الدول الغربية. ولو أنها كسرت الصفوف وحاولت أن تضع نفسها كوسيط بين الشرق والغرب، رافضة تزويد أوكرانيا بالأسلحة، لكانت لذلك عواقب وخيمة لسنوات قادمة.
كانت أوروبا لتواجه مرة أخرى “مسألة ألمانية” جديدة، مع كل ما ترتب على ذلك من انعدام الثقة.
ينطوي فن تحديد السياسة الخارجية على تقييم الاحتمالات والنظر في الفروقات الدقيقة، والسؤال باستمرار عما قد يكون في المصلحة الفضلى للبلد المعنيّ.
وكل من فكر جديًا في الأمر سوف يستنتج أن قرارات الغرب حتى الآن كانت صحيحة.
وستظل هذه التوصيات صحيحة إذا قررت موسكو قطع إمدادات الغاز الكاملة عن القارة. لقد نجت ألمانيا من أزمات أسوأ بكثير في تاريخها.
تعني السياسة الخارجية الفعالة أيضا التخلص من أكبر عدد ممكن من الأوهام. في أوقات الأزمات، نكون محاطين بالأساطير التي تريحنا، ويكون من المغري بشكل لا يصدق تصديقها.
في ألمانيا، هذا يجعل الناس مترددين في مواجهة الحقائق، مما يدفعهم إلى تبني منظور ضيق والتشبث بوجهة نظر متفائلة مضللة حول مدى سهولة حل الحرب والأزمة.
يجب أن نتخلص من ثلاثة أوهام خطيرة: (1) العقوبات الغربية سوف تجبر روسيا على التراجع. (2) موسكو معزولة عن بقية العالم. و (3.) سوف تخرج كييف منتصرة.
لا يمكن إنكار أن العقوبات جزء مهم من رد الغرب على الحرب العدوانية الروسية. هذا غني عن البيان. فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي 830 عقوبة مختلفة.
وقد قُطِعت روسيا عن نظام “سويفت” للمدفوعات الدولية، وحُظِرت فعليًا من الكثير من التجارة الدولية، ومُنعت من استيراد سلع التكنولوجيا الفائقة.
العقوبات لا تطيح بالأنظمة
الآن، أصبح من الصعب جدا على المواطنين الروس السفر إلى الغرب. وصناعة السيارات في بلدهم –التي توظف 600,000 عامل– متوقفة عن العمل، وكذلك صناعة الطيران لأن 700 من أصل 1.100 طائرة يتم إنتاجها في الغرب.
ولم تعد موسكو قادرة على شراء سلع التكنولوجيا الفائقة في أماكن أخرى -فهي تعتمد على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث يزودونها بـ66 ٪ من وارداتها في هذا المجال. زيتوقع الخبراء أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 10 ٪ بحلول نهاية العام.
لكن هذا الضغط لن يجبر بوتين على الركوع. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن المبيعات الروسية من الغاز والنفط ما تزال مزدهرة، لكنه يرجع أساسا إلى أن الديكتاتوريين لا يهتمون بشيء أقل من اهتمامهم بمعاناة رعاياهم.
وقد تعلم الشعب الروسي على مدى قرون أن يعيش مع المشقة والحرمان. وطوال تاريخ القرن العشرين بأكمله، لم تجبر العقوبات نظاما استبداديًا واحدًا على أن يتغير.
على مدى عقود الآن، تخضع كوريا الشمالية وإيران لأقسى أنواع العقوبات، لكن النخبة الحاكمة في هذين البلدين ليست قلقة.
فلماذا يمكن لروسيا –وهي دولة كبيرة جدًا ولديها الكثير من القوة العسكرية بحيث لا يمكن عزلها حقًا – أن تستسلم في حين أن بيونغ يانغ وطهران لم تفعلا؟
على الرغم مما يصر عليه المستشار الألماني أولاف شولتس ووزيرة الخارجية أنالينا بيربوك منذ أشهر حتى الآن، فإن روسيا ليست معزولة بأي حال من الأحوال.
وليس ذلك لأن الكرملين قادر على الاعتماد على دعم قوة عظمى عالمية في الصين فحسب، ولكن أيضًا لأن معظم البلدان في مختلف أنحاء العالم ترى الحرب في أوكرانيا مشكلة أوروبية.
وتظل غالبية الدول الأفريقية محايدة، و-باستثناء اليابان- ينطبق الشيء نفسه على آسيا.
وماذا عن أميركا الجنوبية؟ لم تكن حكومات دول الكتلة التجارية، السوق الجنوبية المشتركة (ميركوسور) في أميركا الجنوبية مستعدة حتى للسماح للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالتحدث في اجتماع قمة.
وهناك استنتاج واحد محتمل يمكن أن تستخلصه موسكو: إن حرب بوتين تخاض ضد الغرب وحده، وآفاقها ليست قاتمة بأي حال من الأحوال بالقدر الذي نود أن نعتقده.
لا يمكن تحقيق انتصار مباشر لأوكرانيا
بعد أن منيت الأيام الأولى من الحرب بإخفاقات استراتيجية خطيرة، أصبحت روسيا الآن تستخدم قوتها العسكرية الكاملة. لدى موسكو عشرة أضعاف القوة النارية لكييف.
ويقاتل الأوكرانيون من أجل البقاء على قيد الحياة، ولذلك كانت قواتهم في كثير من الأحيان أكثر نجاحًا مما توقعته روسيا.
ومع ذلك، بدأ الجنود الروس في الاستيلاء على أراض كبيرة، في حين أن كل ما يمكن للجيش الأوكراني القيام به هو الوعد بأن الهجوم المضاد يسير في طريقه.
ومع ذلك، مهما كان عديد الجسور ومستودعات الذخائر التي يفجرها الجيش الأوكراني -ونأمل أن تكون كثيرة- لن تتمكن كييف من هزيمة القوة العسكرية العظمى التي هي روسيا
. لن يكون هناك انتصار لأوكرانيا -على الأقل ليس انتصارا كما فهمناه منذ عهد الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيتز: “يجب تدمير القوة العسكرية، أي تقليصها إلى حالة لا تكون معها قادرة على ممارسة الحرب”.
إن أمل أوكرانيا الوحيد هو جعل روسيا تعاني من خسائر كافية بحيث تدرك موسكو أن حربها العدوانية لم تعد مقبولة. ولكن الأمر سيستغرق وقتا طويلاً قبل أن يصل الصراع إلى تلك النقطة.
درس متواضع من أيزنهاور
يتعين على ألمانيا أن تدرك أن الحروب يمكن أن تستمر لسنوات عديدة، ومن المرجح أن تفعل هذه الحرب ذلك. وقد حان الوقت لأن تفتح الحكومة –وجميع ممثلي الجمهور – نقاشاً صادقاً حول التضحيات التي يستعد مواطنوها لتقديمها للفوز في هذه الحرب، وما هي خيبات الأمل التي ربما ما تزال تنتظرهم.
ومن واجب السياسيين والمعلقين أن يفكروا في المستقبل، وأن يدينوا إثارة الحروب، وأن لا يكتفوا أبدًا بالإجابات السهلة -حتى عندما يكون ذلك مؤلمًا.
من المؤلم أن ندرك أن أوكرانيا لا تملك القوة العسكرية الكافية للفوز في هذه الحرب مباشرة. ويكمن أمل الأوكرانيين في تحقيق النصر من خلال حرب العصابات.
وسوف يعني ذلك، عاجلا أم آجلا- إجراء مفاوضات مع موسكو، وروسيا ليست مستعدة لذلك بعد.
لكن على واشنطن –باعتبارها أهم حليف لكييف– أن تسعى إلى إجراء محادثات مع موسكو، في حين لا تغفَل أبدًا عن معاناة الأوكرانيين.
حتى في أحلك أيام الحرب الباردة، سعى الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور ووزير خارجيته، جون فوستر دالاس –وكلاهما سياسيان فضلا الحرب على خفض التصعيد– باستمرار إلى عقد اجتماعات مع السوفيات، كما يشهد تاريخ مؤتمرات جنيف في الخمسينيات. وقد فشلا، لكن الأمر كان يستحق المحاولة. تماما كما يستحق المحاولة الآن.
في أوقات الحرب، يجب على صناع السياسة الخارجية أن يسترشدوا بالعبارة الشهيرة التي كتبها صموئيل بيكيت: “جربتَ في أي وقت. فشلتَ من أي وقت. لا يهُم. حاول مرة أخرى. وافشل مرة أخرى. افشل بشكل أفضل”.
*جاك شوستر Jacques Schuster: هو صحفي وإعلامي ألماني، ولد في العام 1965 في برلين في ألمانيا. بعد تخرجه من مدرسة إريك هوبنر في برلين في العام 1983، درس التاريخ والعلوم السياسية في جامعة برلين الاتحادية.
عمل من العام 1987 إلى العام 1996 في الجامعة في كرسي التاريخ المعاصر والعلاقات الدولية، الذي كان قد شغله أرنولف بارينغ. وكان باحثا مشاركا في بارينغ من العام 1991 إلى العام 1996.
منذ العام 1998، كان محررا لصحيفة Die Welt، حيث ترأس قسم السياسة الخارجية من العام 2000 إلى العام 2007، ثم ذهب إلى قسم الرأي وقاد Literarische Welt لعامين تحت إشراف المحررة راشيل سالاماند. منذ مايو 2014، كان شوستر كبير المعلقين في مجموعة “فيلت” ورئيس قسم السياسة فيها.
الغد