منذ لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق، شكلت محافظة ديالى بؤرة للعنف والصراع بسبب عاملين جوهريين؛ أولهما حدودها المشتركة مع إيران، وثانيهما الطبيعة الديمغرافية للمحافظة؛ حيث إنها ذات غالبية سنية، وهو ما جعل الصراع فيها يختلف تماما عن طبيعة الصراع الطائفي وحدته في مدينة بغداد نفسها.
بين عامي 2003 و 2009 شهدت محافظة ديالى عمليات تهجير قسرية، ونزوحا داخليا واسعا ومتبادلا في سياق الصراع الطائفي في المحافظة، وفي محاولة لاصطناع مناطق شبه صافية طائفيا. وقد قدمت وزارة الهجرة والمهجرين تقريرا لأعداد العوائل العائدة من النزوح إلى محافظة ديالى عام 2012، وقد شكل هؤلاء نسبة 20٪ من سكان المحافظة، وهي نسبة النزوح الأعلى في العراق، ما يعني أن عدد النازحين الفعلي يزيد على هذه النسبة!
صوت مجلس محافظة ديالى نهاية عام 2011، (يشكل الأعضاء السنة فيه الأغلبية) بالموافقة على تحويل المحافظة إلى إقليم، بموجب قانون التنفيذية الخاص بتكوين الأقاليم رقم 13 لسنة 2008 والذي أتاح لثلث أعضاء مجلس المحافظة تقديم طلب بذلك. وكان هذا الطلب بداية لتحول نوعي في طبيعة الصراع في المحافظة، ولم يرفضه رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي بطريقة تعسفية تنتهك أحكام الدستور والقانون وحسب، بل لجأ إلى استخدام الشارع عبر احتلال مبنى المحافظة، ثم الاعتصام المسلح أمامه منعا لانعقاد جلسات المجلس، مع حياد مطلق من القوات الأمنية ذات البنية والسلوك الطائفي، وهو ما اضطر المحافظ، الذي حُرق بيته، ومجلس المحافظة إلى عقد اجتماعاته في مدينة خانقين الخاضعة لسيطرة قوات البيشمركه الكردية على مدى ستة أشهر تقريبا!
وبقي هذا الوضع الشاذ في المحافظة، أغلبية سنية في مجلس المحافظة (18 من مجموع 29) مع ميليشيات تفرض شروطها على الأرض وتتواطأُ معها القوات العسكرية والأمنية. وأدت حركة الاحتجاجات في الجغرافيا السنية، وبضمنها محافظة ديالى، التي بدأت نهاية عام 2012، إلى زيادة التوتر فيها، وكانت نتائج انتخابات مجالس المحافظات التي جرت منتصف العام 2013، المتغيّر الآخر الذي أشعل هذا التوتر حيث فشلت هذه الانتخابات في التعبير عن الواقع الديمغرافي للمحافظة حين خسرت الأحزاب السنية 5 مقاعد، ولم تحصل سوى على 13 مقعدا. لكن انشقاقا حصل داخل تحالف ديالى الوطني الشيعي، والذي حصل على 13 مقعدا أيضا، أتاح مؤقتا فوز محافظ سني حينها، الأمر الذي خلّف عمليات تهجير قسري أخرى، وممنهجة في بعض مناطق المحافظة. وانتهت الأمور إلى حسم منصب المحافظ في أيار/ مايو 2015 لصالح محافظ شيعي ينتمي إلى منظمة بدر، وهولا يزال في منصبه حتى اللحظة.
ستبقى الجرائم في ديالى تقيد ضد مجهولين، أو تعلق على شماعة «داعش» ما دامت الدولة غير مستعدة للتخلي عن تحيزاتها الطائفية، وما دامت القوات الأمنية غير قادرة على أن تكون مهنية، وما دامت الميليشيات تسيطر على محافظة ديالى
وحدث التحول الجوهري في محافظة ديالى في سياق الحرب على تنظيم داعش، فلم يعد الصراع الطائفي هو الصراع الوحيد للمحافظة، بل دخل صراع من نوع جديد بين الميليشيات الشيعية نفسها والتي تكاثرت وانتشرت في المحافظة. فعلى مدى السنوات التي سبقت العام 2014 كانت منظمة بدر هي المسيطر الحقيقي على الأرض، وتكرس هذا الأمر بعد حزيران 2014 حيث تحولت ديالى إلى إقطاعية حقيقية بعد تكليف المالكي لزعيم منظمة بدر هادي العامري بالإشراف العام على المحافظة.
لكن صعود الميليشيات الأخرى، والتنافس فيما بينها على الموارد، أدى ليس إلى حصول صراعات صريحة بين هذه الميليشيات وحسب، بل إلى انشقاقات داخل منظمة بدر نفسها!
تمتد الحدود العراقية الإيرانية لمسافة طويلة في محافظة ديالى، و المنفذ الحدودي الوحيد بين البلدين هو معبر المنذرية في خانقين الخاضع لسيطرة قوات الاتحاد الوطني الكردستاني. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 افتتح معبرٌ رسميٌّ ثان، هو معبر سومار في مندلي، وكان رسميا من جهة العراق فقط، ولم يكن رسميا من الجهة الإيرانية! استخدم هذا المعبر في نقل الأسلحة في سياق الحرب على داعش، لكنه استخدم أيضا في التهريب، وكان جزءا من طريق الحرير الإيراني الذي أريد له أن يمتد من الحدود بين ديالى وإيران إلى البحر الأبيض المتوسط!
من هنا لا يمكن فهم ما يجري في ديالى من صراعات، تتطرف أحيانا لتتحول إلى جرائم قتل خارج إطار القانون تحت مرأى القوات الأمنية، إلا في هذين السياقين؛ الصراع الطائفي الذي لايزال حاضرا بقوة مع السياسات التمييزية التي تعتمدها الحكومة الاتحادية وحكومة المحافظة معا، وصراع آخر بدأ يتحول إلى العنف الصريح بين أمراء الحرب على الموارد.
بعد حادثة القتل الأخيرة في المقدادية/ ديالى في بداية هذا الشهر، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 11 ضحية، وردت عبارة خطيرة في رسالة وجهها عضو في مجلس النواب العراقي عن محافظة ديالى، وهو عضو منشق عن منظمة بدر وينتمي إلى عائلة لديها نفوذ وميليشيا خاصة بها في ديالى، إلى رئيس مجلس الوزراء تتهم المحافظ نفسه بأن لديه «معبرا غير أصولي في ناحية قزانية يعمل على إدخال 20 شاحنة غير رسمية يوميا»!
بعد يوم واحد من هذه الرسالة ألقت القوات الأمنية العراقية القبض على شقيق النائب الذي كتب الرسالة، وعرضت صورته بالملابس الداخلية للتنكيل به، وبمن معه وخلفه، في انتهاك لحقوق الإنسان التي لا وجود لها في العراق أصلا! ليَظهر فيديو لشقيقِه النائب المعني في تجمع عشائري، يهدِّدُ فيه بقطع الطرق في حال عدم الإفراج عن شقيقه!
في اليوم التالي أطلق سراح المعتقل من دون أي معلومات رسمية عن سبب اعتقاله بهذه الطريقة غير الأخلاقية، ثم إطلاق سراحه!
ستبقى الجرائم في ديالى تقيد ضد مجهولين، أو تعلق على شماعة «داعش» ما دامت الدولة غير مستعدة للتخلي عن تحيزاتها الطائفية، وما دامت القوات الأمنية غير قادرة على أن تكون مهنية، وما دامت الميليشيات الرسمية وشبه الرسمية وغير الرسمية تسيطر على محافظة ديالى، فهكذا جرائم تحظى بتواطؤ جماعي!
ولكن الجرائم «مزدوجة الأغراض» والمرتبطة بالاقتصاد السياسي للعنف ودينامياته، والمصالح الاقتصادية والشبكات المنخرطة فيه القائمة على أساس الطائفة والحزب والعشيرة والأسرة، لا يمكن التواطؤ عليها، لأنها تهدد معادلة علاقات القوة القائمة، لهذا وجدنا السلطة/ الدولة نفسها تنحاز إلى طرف دون آخر، وبشكل فاضح، لأن هذا الصراع لا ينعكس عليها فقط، بل يهددها هي نفسها!
القدس العربي