القاهرة- تباينت تفسيرات تراجع تحويلات المصريين بالخارج خلال الستة أشهر الأخيرة، حيث يرى محللون أن المصريين ينتظرون سعر صرف عادلا، فيما برره آخرون بارتفاع تكلفة المعيشة بالخارج، وفي كلتا الحالتين، فإن هذا التراجع له تداعيات سلبية على اقتصاد البلاد.
أحد الحرفيين يعمل في المملكة العربية السعودية أكد -في حديثه للجزيرة نت- أنه لم يعد يرسل من أمواله سوى مبالغ صغيرة لسد الاحتياجات الضرورية والعاجلة لذويه بمصر، بعد أن تم القبض على مجموعة من الأفراد كانت تتولى تحويل الأموال لأهله في مصر بما يعادل سعر الصرف الموازي، أو ما يعرف بالسوق السوداء.
ومنذ التعويم الثاني للجنيه قبل شهور، اختار العديد من المصريين المسلك غير الرسمي لتحويل الأموال، ما انعكس انخفاضا كبيرا في الأرقام الرسمية لتحويلات المصريين بالخارج، حيث انخفضت بالربع تقريبا مقارنة بالعام الماضي بحسب بيانات المركزي المصري.
وتقدم البرلماني محمود عصام قبل أيام بطلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي وعدد من المسؤولين، لتوضيح أسباب انخفاض تحويلات المصريين في الخارج وتداعياتها السلبية على الاقتصاد.
وبحسب بيان البنك المركزي عن ميزان المدفوعات الصادر أخيرا، وصلت تحويلات المصريين بالخارج خلال النصف الأول من العام المالي 2022-2023 إلى 12 مليار دولار مقابل 15.6 مليار دولار في نفس الفترة من العام المالي الماضي.
وأشار النائب البرلماني أن تحويلات المصريين تعد العنصر الأكثر تأثيرا على تدفقات النقد الأجنبي في مصر، ولكن مع ارتفاع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسوق الموازية، ونشاط تجارة العملة في السوق الموازية، أحجم كثير من العاملين في الخارج عن عمليات التحويل في القنوات الرسمية، واعتمدوا بشكل كبير على تجار العملة الذين استطاعوا تكوين شبكات واسعة من المعاملات في دول الخليج خارج الإطار الرسمي، معربا عن توقعاته بأن تواصل التحويلات انخفاضها خلال الفترة المقبلة.
ومرت تدفقات تحويلات المصريين بالخارج بفترات مختلفة انعكاسا للتطورات الاقتصادية والسياسية العالمية على مدار السنوات الماضية، حيث بلغت قيمة التحويلات خلال العام المالي 2010-2011 أقل معدلاتها بقيمة 12.6 مليار دولار، وتحسنت خلال فترة 2011-2012 لتسجل 18 مليار دولار، وفي عام 2014-2015 مع إعلان برنامج الإصلاح الاقتصادي بلغت قيمة التحويلات 19.3 مليار دولار، وسجلت قيمة التحويلات خلال العام المالي 2016-2017 نحو 21.8 مليار دولار، وذلك عقب قرار الحكومة المصرية تعويم الجنيه أمام الدولار في نهاية عام 2016 والذي أدى لانخفاض قيمة الجنيه بنسبة 78%.
وواصلت التحويلات الارتفاع عقب قرار التعويم وتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي لتصل إلى مستويات 25.2 مليار دولار في 2018-2019، واستمرت في التحسن، حيث سجلت أعلى مستوى تاريخي لها في عام 2021-2022 بنحو 31.9 مليار دولار.
وتمثل تحويلات المصريين في الخارج 7% من إجمالي الناتج المحلي، لاسيما مع احتلال مصر المركز الخامس بين أعلى الدول المتلقية للتحويلات المالية من الخارج، بحسب تقارير صادرة عن مؤسسات دولية.
الأسباب الرئيسية
وتنقسم تقديرات المحللين الاقتصاديين حول الأسباب التي أدت لتراجع التحويلات، إلى أسباب رئيسية وأخرى فرعية، إلا أن أبرز الأسباب هو اختلاف سعر الصرف الرسمي عن السوق الموازية، حيث يصل الفرق في بعض الأحيان إلى 10 جنيهات (الدولار يساوي نحو 30 جنيها بسعر الصرف الرسمي).
أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والإستراتيجية، رشاد عبده، يؤكد أن انعدام الرقابة على السوق الموازية، يساعد على تصاعد عمليات المضاربة على الدولار، وانخفاض سعر صرف الجنيه بطريقة غير منطقية.
ويرى المحلل الاقتصادي وائل النحاس أن ارتفاع كلفة المعيشة بالخارج من الأسباب الإضافية التي أدت لانخفاض قيمة الجنيه، وقال إن إنهاء عقود عمل الآلاف بالخليج، وحصولهم على مكافآت نهاية الخدمة، وتصفية أعمالهم، ظهر في الارتفاع الكبير للأموال التي عادت مع المصريين العائدين من الخارج بين عامي 2021 و2022.
ويؤكد النحاس أن هناك مبادرات حكومية لتشجيع المصريين على التحويل جاءت بنتائج عكسية، مثل مبادرة إدخال سيارات المغتربين، التي دفعت مصريين لتأجيل قرار التحويل إلى حين العودة بسياراتهم لدفع رسومها الجمركية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن هذه المبادرة حبست نحو 800 مليون دولار.
يكشف المحلل طارق متولي الخبير الاقتصادي عن اعتقاده بأن تراجع التحويلات، يسهم في تآكل الاحتياطي الدولاري لدى مصر، ما يشكل ضغطا على سعر الصرف، مرجحا -في حديثه للجزيرة نت- استمرار تراجع قيمة الجنيه، مع ضغوط صندوق النقد الدولي على الحكومة المصرية لضمان وجود سعر صرف مرن.
ويتفق مع الرأي السابق رشاد عبده أستاذ الاقتصاد، مؤكدا في حديثه للجزيرة نت أن تآكل الاحتياطي النقدي سيؤدي لارتفاع الأسعار وزيادة التضخم، وانخفاض مستوى معيشة المصريين، وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
ويرى عبده أن شح العملة الأجنبية، سيؤدي كذلك لاستمرار العجز عن تلبية احتياجات المصريين من السلع الأساسية، وكذلك العجز عن إدخال مستلزمات الإنتاج في الموانئ، وبالتالي تعرض الاقتصاد المصري لضغوط قد تجبر البنك المركزي على إجراء خفض جديد في سعر الفائدة، مما يزيد الضغوط على الجنيه، ويسهم في تآكل الاحتياطي الأجنبي فضلا عن زيادة حجم الديون الخارجية والدَّين الداخلي.
وأشار رشاد عبده إلى أن الوضع الصعب للاقتصاد المصري سيجعل قدرة الحكومة المصرية على مقاومة الضغوط الاقتصادية شبه معدومة، لاسيما في ظل وجود فجوة كبيرة في سعر الجنيه وتراجع المعروض من الدولار.
حلول عاجلة
النائب البرلماني محمود عصام قال في بيانه إنه لا بد من “استعادة الثقة”، لضمان استقرار تدفقات النقد الأجنبي من الخارج.
وطالب بضرورة أن تفكر الحكومة في خلق آليات اقتصادية وتمويلية جديدة لتحفيز التحويلات والعمل على زيادتها، من خلال إصدار ما يعرف بـ”سندات الشتات”، حيث تقوم الحكومة بإصدار سندات تستهدف المصريين في الخارج على غرار السندات السيادية التي يتم طرحها للمؤسسات الاستثمارية الأجنبية، كما يجب أن تعفي الحكومة تحويلات المصريين في الخارج من أي ضرائب أو رسوم على عمليات التحويل بما يسهم في خفض كلفة التحويل.
ويقترح الخبير المصرفي هاني عادل مجموعة من الحلول تستطيع بها الحكومة المصرية مواجهة هذه الأزمة، منها استعادة مناخ الثقة في الاقتصاد المصري، وبناء جسر من الثقة مع المغتربين المصريين في الخارج.
وأضاف عادل -في حديثه للجزيرة نت- أن إعادة الثقة في الاقتصاد المصري، يتطلب كذلك كف الحكومة المصرية عن اتخاذ قرارات ترسخ أجواء الشك في الاقتصاد، وتستعيد الثقة في مبادراتها، ومنها مبادرة إغراء المصريين بشراء سيارات، وإرسالها لمصر بإعفاءات ومقابل دفع الجمارك بالدولار، ولإعادة تحويل مدخراتهم إلى القطاع المصرفي الرسمي، أو ضخ استثمارات في السوق المصرية.
المصدر : الجزيرة