نيويورك – شهدت الأيام الماضية تحركات أميركية مكثفة لتهدئة التوترات الدبلوماسية والتجارية مع الصين، منذ اتفاق الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ على إطلاق عملية احتواء التوترات الثنائية، خلال لقائهما في منتجع بالي الإندونيسي في نوفمبر الماضي.
لكن بول هير، الباحث الكبير غير المقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، يرى في تحليل نشره موقع مجلة ناشونال إنترست الأميركية، أن التقدم المهم نحو تخفيف التوترات الثنائية وتعزيز قوة الدفع الإيجابية في العلاقات بين واشنطن وبكين يعاني من الجمود.
فوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وزملاؤه في إدارة الرئيس جو بايدن يؤكدون أن هدف هذه الجهود هو “المحافظة على قنوات الاتصال مفتوحة” و”إدارة التنافس بطريقة عقلانية من خلال تقليل خطر إساءة الفهم وأخطاء الحسابات”.
في المقابل يتذرع المسؤولون الصينيون بضرورة المضي قدما وفق عملية بالي، ويؤكدون سعي الصين لإقامة علاقات تستند إلى مبادئ “الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المفيد للجانبين”. ويكرر الصينيون كما هو متوقع تماما اعتراضاتهم على السياسة الأميركية تجاه “مسألة تايوان” التي مازالت “جوهر المصالح الأساسية للصين”.
ومن العقبات التي تعرقل التقارب، رفض بكين عقد لقاء بين وزير الدفاع الصيني لي شانجفو ونظيره الأميركي لويد أوستن مادام الأول مازال خاضعا للعقوبات التي فرضتها عليه واشنطن في عام 2018 بدعوى دوره السابق في عمليات نقل أسلحة روسية إلى الصين.
في المقابل وافق لي في الشهر الماضي على لقاء وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر خلال زيارته لبكين. كما استقبل شي جينبينغ نفسه الوزير والمفكر الإستراتيجي المخضرم كيسنجر، في حين لم يستقبل وزيرة المالية الأميركية جانيت يلين ثم المبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون المناخ جون كيري.
وانتقدت الكثير من التعليقات الأميركية كلا من بكين وكيسنجر بسبب هذه الزيارة. وقال المنتقدون إن الصينيين يختارون المحاورين الأميركيين الذين يحققون مصالحهم، وإن كيسنجر يعمل دائما كقناة لنقل المواقف الصينية. لكن هذه الانتقادات مبالغ فيها، فالصينيون أنفسهم يدركون محدودية نفوذ كيسنجر في واشنطن. كما أن الرئيس الأميركي لا يستقبل عادة المسؤولين الحكوميين الصينيين الذين يزرون واشنطن، إلى جانب أنهم يعترفون بالدور التاريخي لكيسنجر في تطوير العلاقات الأميركية – الصينية، بحسب بول هير مؤلف كتاب “السيد شي والمحيط الهادئ: جورج إف. كينان والسياسة الأميركية في شرق آسيا”.
في الوقت نفسه فإن الاهتمام الذي حظيت به زيارة كيسنجر وبخاصة لقائه مع وزير الدفاع لي يؤكد أن العلاقات الأميركية – الصينية عالقة في مسار دوار. وقال بلينكن في مقابلة تالية إن العقوبات الأميركية على لي “لا تمثل عائقا عمليا” أمام لقائه بالمسؤولين الأميركيين، ولذلك فإن قرار بكين بشأن لقاءات الوزير هو “قرار سياسي”.
وفي سياق منفصل يقول كروت كامبل، المنسق الأميركي لشؤون منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إن تجنب الصين للحوار العسكري مع الولايات المتحدة، هو نتيجة ثانوية للعلاقات المدنية – العسكرية الصينية وغيرها من القضايا الهيكلية، وقد لا ترتبط بشكل مباشر بحالة العلاقات الأميركية – الصينية.
كما أن من أسباب عدم تقدم العلاقات الأميركية – الصينية بشكل إيجابي هو تماثل الطريقة التي يتعامل بها الجانبان مع العلاقات. ولا يريد أي منهما الاعتراف بهذا التماثل، وربما لا يستطيعان الاعتراف به. فكل من واشنطن وبكين تؤكدان أهمية استئناف التواصل الجوهري، لكن كلا منهما يسعى إلى أن يظهر الطرف الثاني بمظهر الأحرص على التقارب، في محاولة لكي يدعي الآخر بأنه صاحب اليد العليا في العلاقات. باختصار، كل طرف يرغب في بدء عملية التقارب، لكن وفق الشروط التي تخدم أجندته الخاصة.
ويقول هير في تحليله بمجلة ناشونال إنترست إن هناك تماثلا في التحركات غير الودية من الجانبين، مما يواصل تقويض احتمال تحقيق تقدم حقيقي في التقارب. فالأنشطة العدائية والاستفزازية التي تقوم بها الصين تمتد من السلوك العسكري العدائي في بحري الصين الجنوبي والصين الشرقي إلى الهجمات السيبرانية والممارسات الاقتصادية غير المقبولة، والدبلوماسية المناوئة للمصالح الأميركية.
في الوقت نفسه تواصل الولايات المتحدة تشديد القيود على الصادرات والاستثمارات الأميركية والغربية بشكل عام إلى الصين، كما تنخرط واشنطن في تحركات دبلوماسية ثنائية ومتعددة الأطراف بهدف مواجهة النفوذ الصيني. علاوة على ذلك أعلن البيت الأبيض مؤخرا صفقة سلاح جديدة لتايوان بقيمة 345 مليون دولار، في حين من المتوقع السماح لنائب الرئيس الصيني لاي شينج تي بالتوقف في الولايات المتحدة، في طريقه إلى باراغوي في وقت لاحق من الشهر الحالي، وهي تصرفات تغضب الصين بشدة.
لكل هذه الأسباب، من غير الصعب معرفة لماذا لم تحقق الاندفاعة الدبلوماسية الأخيرة التي جاءت على أعلى مستوى بين الصين والولايات المتحدة انفراجة ملحوظة نحو علاقة عمل بناءة، ناهيك عن علاقة مفيدة متبادلة، ستكون ضروية للجانبين في نهاية المطاف، كل طرف من الطرفين يعمل بجد للوصول إليها، لكنه ينتظر أن يعترف الطرف الآخر بخطأ طريقته في التعامل، أو على الأقل أن يقدم تنازلا ذا معنى لكي يكسر الجليد بينهما. كما أن كلا الجانبين يؤمنان بقدرتهما على تحمل الوضع العالق بدعوى أن لديهما أرضية أخلاقية جيدة مع توازن النفوذ. كما أن كل جانب يبالغ في تقدير موقفه ولا يقدر موقف الطرف الآخر حق قدره.
لذلك يقول بول هير والمسؤول في إدارة شرق آسيا بمجلس الاستخبارات الوطني الأميركي خلال الفترة من 2007 إلى 2015، إنه على واشنطن وبكين إدراك التماثل في المعادلة، وإدراك أن إنكار وجوده، يؤدي إلى المزيد من سوء الفهم وانعدام الثقة، وربما إلى الانزلاق الحتمي نحو الصراع. ولن يضمن أي طرف استسلام الطرف الآخر ولا حتى التفوق عليه بصورة دائمة. إنما الطريقة الوحيدة المجدية للخروج من دائرة التوتر هي الدبلوماسية التي تستهدف منع التصعيد والفهم المتبادل والاهتمام المتزايد بالمخاوف الأساسية لكل طرف. كما ينبغي استكمال هذا بالتصميم على أن يكون الجهد المبذول لصياغة مجالات للتعاون بنفس قدر الجهد المبذول لإدارة مجالات المنافسة الحتمية بين الجانبين.
وعلى واشنطن البحث عن سبل جذب بكين إلى السعي الجاد من أجل التعايش السلمي التعاوني والتنافسي في الوقت نفسه، بدلا من الإصرار على لعبة إلقاء الاتهامات والسعي إلى التفوق المطلق. أما إذا ظل التوافق الحزبي في واشطن على “معاداة الصين” فستظل العلاقات الصينية – الأميركية تتجه نحو المزيد من العداء المتبادل وربما العدوانية.
العرب