تكشف تجارب عديدة في التاريخ الإنساني مدى أهمية الطوائف السياسية وخطورة توظيفها في الصراعات، ولئن يقف تاريخ حرب الثلاثين عاما (1618 – 1648) كأحد أكثر الشواهد دموية عن الصرعات بين الطوائف المسيحية، فإن التاريخ الإسلامي يحفل بالعشرات من الأمثلة التي تقف محذّرة من خطورة هذه الطوائف التي شبّهها بعض الخبراء بأنها “وقف”، يتمّ فكّ حُبسه عند الحاجة إليه.
وأحدث مثال على ذلك الجدل الذي أثارته إيران، خلال اليومين الماضيين، حين احتجت رسميا لدى دولة نيجيريا على هجوم شنّه الجيش ضد مجموعة صغيرة من الشيعة في بلدة زاريا (شمال البلاد). وما زاد من الجدل، وفي الوقت نفسه أثار القلق، موقف الرئيس الإيراني، الذي يعكس موقف المرشد الأعلى والنظام في إيران، حيث أجرى اتصالا مباشرا بنظيره النيجيري، محمد بخاري، طالبه فيه بإنشاء لجنة تقصي حقائق في حادث زاريا.
أعقبه اتصال أجراه وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، بنظيره النيجيري جيفري أونياما لكي يطلب منه أن تتحرك حكومته “فورا وبشكل جدي لتجنب العنف” ضد الشيعة في نيجيريا، كما استدعت طهران القائم بالأعمال النيجيري إلى مقر الخارجية الإيرانية التي طالبت السلطات النيجيرية “بشكل جاد بتحديد أبعاد الحادث ومعالجة الجرحى وتعويض الخسائر والأضرار في أسرع وقت ممكن”، كما أوردت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية.
وقال خبراء إن الموقف الرسمي الإيراني بدا وكأنه يتحدّث عن جالية إيرانية في نيجيريا وليس عن مجموعة من المواطنين النيجيريين المسلمين الذين يعتنقون المذهب الشيعي، والذين تمّت مواجهتم أمنيا على خلفية محاولة إثارة الشغب والإخلال بالأمن بعدما استهدفوا قافلة تحمل قائد أركان الجيوش النيجيري يوسف بوراتاي في محاولة لاغتياله.
هذه الحادثة، وفق الخبراء، كانت لتمرّ مرور الكرام، لولا تصريحات إيران، التي اعتبرها البعض تدخّلا في الشأن النيجيري الخاص، ولم يستبعدوا أن تكون طهران وراء التصعيد الذي تمّ على خلفية هذه الحادثة، حيث تجمع العشرات أمام سفارة نيجيريا في طهران للاحتجاج على “مجزرة بحق الشيعة”، فيما نظمت تظاهرة أخرى ضمت المئات من الطلاب في إحدى جامعات العاصمة النيجيرية.
وأوضح المتحدّث باسم الجيش النيجيري العقيد ساني عثمان، في بيان نشر على الموقع الإلكتروني للجيش، إن “الطائفة الشيعیة وبناء على أوامر قائدهم، إبراهيم الزكزاكي في زاريا، هاجمت موكب رئيس أركان الجيش الذي يرافقه 73 عسكريا، بينما كان في طريقه لزيارة شيهو إدريس في زاريا”. وتابع البيان موضّحا أن “المئات من أبناء الطائفة الذين يحملون السلاح، وتحصّنوا في الطرق، رفضوا كل التوسلات للتفريق ثم بدأوا بإطلاق النار ورشقوا الموكب بمواد خطرة”.
وبناء على هذا البيان، اعتبر الخبراء أن لا مبررات لتدخّل إيران، وما تدخّل الجيش النيجيري حتّمه الظرف الأمني للبلاد، التي تشهد حربا ضروسا ضدّ جماعة بوكو حرام، السنّية المتشدّدة، وبالمثل ضدّ كل جماعة أو تنظيم مسلّح يشكّل تهديدا لأمن البلاد، ومن هنا يقول أمنيون نيجيريون إن المسّلحين الشيعة لا يقلّون خطرا عن جماعة بوكو حرام، فكلاهما يسعى إلى إقامة نظام خاص به في نيجريا عبر استهداف جيشها وأمنها وطوائفها.
وقد خاض أنصار زكزاكي العديد من الصدامات العنيفة مع الدولة عبر عقود من الزمن، في محاولات لإرساء قواعد نظام جمهورية إسلامية في نيجريا مشابه للجمهورية الإسلامية في إيران التي احتضنت وكوّنت إبراهيم زكزاكي، الذي يوصف بأنه النسخة النيجيرية لحسن نصرالله أمين عام حزب الله اللبناني، حيث أمدوه بالمال والسلاح وقام هو بدوره بتكوين ميليشيات مسلحة في نيجيريا. ويشير الصحفي البريطاني مارك لوبيل إلى أنه في السنوات الأخيرة زاد حجم عضوية الحركة الشيعية في نيجيريا واتسع نطاقها بعد أن كانت حركة صغيرة ومحدودة، وذلك في الوقت الذي تحول الاهتمام فيه إلى حركة بوكوحرام، وهي حركة إسلامية سنية تحارب من أجل إقامة دولة إسلامية في نيجيريا.
وذكرت تقارير أنه ليس مستبعدا أن تعلن المنظمة الإسلامية في نيجيريا الحرب على بوكو حرام، من منطلقات مذهبية لا على أساس التصدي للتشدد، وليس مستغربا أن يسوّق حزب الله النيجيري ممارساته وتطاوله على الدولة بأنها من ضروب الممانعة والمقاومة لبوكو حرام. وتضيف التقارير أن إيران بعد منعها من إرسال مساعدات عسكرية وأسلحة إلى ميليشيات الحوثي في اليمن، قررت تكوين جيش من الأفارقة للزج بهم في العراق واليمن، وما نيجيريا إلا واحدة من بين حوالي 32 بلدا أفريقيا، تنشط فيه الآلة الإيرانية، في سرية، ضمن طريقة تقوم بالأساس على مبدأ التقية الذي يؤمن به الشيعة.
لكن، الحادثة الأخيرة في نيجيريا، والتي لا يمكن فصلها عن السياق الاستراتيجي الإقليمي والدولي، وما يشهده العالم من زخم في الفترة الأخيرة، أعاد تسليط الضوء على التواجد الإيراني في أفريقيا، وهو تواجد يشدّد الخبراء على ضرورة تأكيد صفته الإيرانية قبل صفته الشيعية، مشيرين إلى ضرورة توضيح العلاقة بين التشيع وإيران وأيهما يخدم الآخر.
فالتشيع كمذهب ديني وكحقّ شخصي، يمكن لأي إنسان أن يتّبعه، وهو حق تكفله النصوص الدينية والدساتير الإنسانية، لكن يصبح هذا “الحقّ” خطرا وتهديدا حين يكون حقّ يراد به باطل، ووسيلة تتبعها إيران لتحقيق مكاسب سياسية تهدّد أمن غيرها من الدول.
تبشير واستثمار
يقول الباحث أمير سعيد، مؤلف كتاب خريطة الشيعة في العالم إن “إيران تتجه إلى أفريقيا تبشيرا واستثمارا”، فيما يؤكّد بيتر فام، مدير مجموعة أفريكا سانتر البحثية، التابعة لمجموعة التفكير الأميركية (أطلانتيك كاونسيل) أن إيران لا تكتف بمعاركها المكشوفة في الشرق الأوسط لتقوية تمددها في المنطقة، بل وضعت خططا منفصلة لتثبيت هذا التمدد في أفريقيا ذات الثقل الاستراتيجي والجغرافي والكثافة السكانية العالية، والتي يمثّل فيها المسلمون ثقلا كبيرا.
الموقف الرسمي الإيراني بدا وكأنه يتحدث عن جالية إيرانية في نيجيريا وليس عن مجموعة من المواطنين النيجيريين
وليس الباحثون عن الثروة فقط هم من يرون في أفريقيا قارة استراتيجية مهمة، بل وحتى المبشّرون من كل الأديان والمذاهب، والذين ينقسمون اليوم بين تنصيريين ومبشّرين شيعة، وكلاهما وان اختلفت ديانتهما فقد تشابها في بعض الوسائل والطرق التي يتسللون بها لنشر عقائدهم المذهبية السياسية.
ويعتبر الشيعة من الأقليات في أفريقيا، وتبلغ نسبتهم بين 5 و10 بالمئة من مجموع السكان المسلمين وأغلبهم متأثّرون بالتشيع الإيراني وقادتهم تمّ توظيفهم من طرف إيران. وعند الحديث عن تغلغل الإسلام الشيعي في أفريقيا، يستحضر الذهن فورا دولتي نيجيريا والسنغال بدرجة أولى، حيث تتكاثر الأقلية الشيعية في البلدين، بشكل مثير للدهشة، وسط أغلبية سنية.
وتملك نيجيريا واحدا من أكبر تجمعات المسلمين في غرب أفريقيا، حيث أن أكثر من 50 بالمئة من سكانها (70 مليونا)، مسلمون، أغلبيتهم من السنّة وهناك أقلية شيعية تتراوح بين 5 و10 ملايين ساكن، وخاصة في الولايات الشمالية. من جهتها تعتبر السنغال أحد أبرز مراكز إيران في الغرب الأفريقي، حيث يقدّر عدد الشيعة بها بحوالي 5 بالمئة من سكّان البلاد.
وتمكّنت إيران من التغلغل عميقا في أفريقيا عبر اختلاق المشاكل، كما هو الحال مثلا مع حادثة نيجيريا الأخيرة، والتبشير عبر البعثات العلمية والمؤسسات التعليمية الخاصة والمراكز الثقافية والحوزات العلمية، وجمعيات الهلال الأحمر والمؤسسات. ويشير الخبراء إلى أن الإيرانيين استغلوا في وقت من الأوقات، غياب تراجع الاهتمام العربي الإسلامي السني، والذي تقوده بالأساس المملكة العربية السعودية، ليحققوا نقلة كبيرة في تواجدهم في أفريقيا.
ويقول بيتر فام، في هذا السياق، إنه، يجب أن تدرك الإدارة الأميركية أنه في حين كانت مشغولة بإقناع نظام الملالي بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، كانت إيران تماطل، من خلال إرسال المسؤولين المعروفين والدبلوماسيين والضباط العسكريين، ورجال الدين إلى جميع أنحاء العالم، لبناء شبكة من العلاقات السياسية والعسكرية والتجارية، الهدف منها التوقي من اليوم الذي قد تتعرض فيه إلى ضغوط كبيرة. ويبدو سلوك طهران هذا شديد الوضوح في أفريقيا أكثر من أي مكان آخر.
ومن المعروف أنه قبل المئات من السنين، أبحر الهنود باتجاه الساحل الشرقي من أفريقيا مستخدمين السفن الشراعية التي تقودها الرياح الموسمية التي تهب من شمال الشرقي. وكان هناك شباب من الشيعة الخوجة بين هؤلاء البحارة ومنهم من بقي في شرق أفريقيا. واستقر الشيعة في جميع أنحاء أفريقيا ومن خلال مساعدة بعضهم البعض ازدهرت أحوالهم وعملوا على تشكيل مجتمعا من الشيعة الخوجة الإثنا عشرية، وكانت مهنتهم الرئيسية هي التجارة، وهي الوسيلة التي اتبعتها إيران أكثر من غيرها في ترسيخ أقدامها في السنغال ونيجيريا وغيرهما من البلدان الأفريقية، وقد ساعدها على ذلك الجالية اللبنانية الشيعية، التي استوطنت هذه البلدان وحملت جنسيتها.
كما يشير بيتر فام إلى الشقيقين، أحمد خليفة نياس وسيدي لامين نياس، أبناء أحد المرابطين المشهورين التابعين للطريقة التيجانية الصوفية المنتشرة في عموم السنغال، واللذين تمرّدا عليها، بعد أن أثّرت الثورة الإسلامية الإيرانية بشكل كبير عليهما، فقام بنشر التشيع والتأثير في عدد من السنغاليين.
وخلال الأعوام القليلة الماضية بدأت إيران إحصاء عدد الشيعة في غرب أفريقيا. ويقوم مجمع «أهل البيت» الذي يتبع المرشد الأعلى لإيران بالإشراف على عملية الإحصاء العددي للشيعة في العالم وفي القارة الأفريقية.
وقد تم توقيع مجموعة مذهلة من الصفقات التجارية والدبلوماسية وفي مجال الدفاع أيضا. وتريد إيران، من خلال هذه الصفقات والإغراءات المادية، حشد أكبر قدر من الموالين لها، خاصة وأن كلّ الطرق في الشرق الأوسط مغلقة، في وجه سفنها التي تحمل شحنات الأسلحة والدعم لأذرعها في المنطقة على غرار حزب الله ومؤخّرا، أكّدت تقارير عديدة أن السلاح الإيراني يصل إلى الحوثيين في اليمن عبر سواحل أفريقيا.
ويرى طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في القاهرة، أن إيران شيدت علاقات قوية لها بدول أفريقية من خلال استثماراتها السخية، ومحاولة تكوين بؤر شيعية، مستفيدة من حالة الفقر، في بعض الدول مثل أوغندا. وشرح فهمي، لـ”العرب”، تكتيكات إيران لتوسيع نفوذها، قائلا إنها اعتمدت على تقديم المساعدات الاقتصادية، والنفط والمساعدات العسكرية لمنطقة الأحزمة الإستراتيجية. وأوضح أن طهران تستهدف بسط نفوذها على الممرات المائية في المنطقة.
غسيل أموال حزب الله
وحزب الله، بالذات، يعدّ أحد أبرز أذرع التمدّد الإيراني في أفريقيا، فهو يدير مؤسسات اقتصادية ضمن منافذ لغسيل الأموال عبر أفريقيا. وفي مطلع العام الحالي كشفت وزارة الخزانة الأميركية عن شبكة لتمويل ودعم حزب الله مركزها نيجيريا. وتتكون من ثلاثة أشخاص ينشطون في التجارة ولهم محلات سوبر ماركت وفنادق وشركات استثمارية يستخدمونها كواجهة للتغطية على أعمال مشبوهة من بينها جمع الأموال، والتجنيد والرصد لفائدة الحزب اللبناني.
ومن بين الأسماء التي ذكرها التقرير الأميركي مصطفى فواز، وهو عضو في منظمة تابعة لحزب الله، وقد اعتقل في نيجيريا سنة 2013، وأقر بانتمائه للحزب، كما اعترف بأسماء آخرين ينتمون للشبكة. والعضو الثاني هو شقيقه فوزي فواز، عضو في الحزب الشيعي، وقد تولى مهام العلاقات الخارجية له في أبوجا. وكانت السلطات النيجيرية ألقت القبض عليه، وبحوزته أسلحة ثقيلة. وقد أظهرت التحقيقات معه تورطه في أنشطة إرهابية مختلفة. والشخص الثالث عبدالله تاحينه، وهو عضو بارز في جماعة حزب الله في نيجيريا يتولى جمع التبرعات لصالح الحزب، وتقول وزارة الخزانة الأميركية إنه خضع لدورات عسكرية في لبنان قبل انتقاله إلى هذا البلد الأفريقي.
وفي عام 2004 تحطمت طائرة تابعة لاتحاد النقل الأفريقي عند إقلاعها من مطار كوتونو، وقد اتضح أن تلك الطائرة كانت تحمل مسؤولا في حزب الله واثنين من مساعديه، وكان بحوزتهم مبلغ مليوني دولار. وقيل آنذاك إنها كانت عبارة عن تبرعات قدمها بعض الأثرياء اللبنانيين الذين يمارسون نشاطا اقتصاديا في أفريقيا لصالح الحزب. وقد قال حينها، ماثيو ليفيت، مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب في معهد واشنطن للدراسات إن “ناشطي حزب الله في أفريقيا يقومون باستثمار وغسيل كميات كبيرة من الأموال ويقومون بتجنيد ناشطين محليين، وجمع معلومات استخباراتيّة”.
دور الجالية
تعتبر أفريقيا، إلى جانب أميركا اللاتينية، مركز ثقل مالي لحزب الله، وذلك بعود بالأساس إلى تركّز الجالية اللبنانية فيهما. لكن، في أميركا اللاتينية، استغلت إيران المشاعر المعادية للولايات المتحدة، في دول مثل بوليفيا ونيكاراغوا وفنزويلا. وعلى النقيض من ذلك، في أفريقيا، حيث تمتلك معظم البلدان علاقات قوية مع الغرب، ركزت إيران على تعزيز الولاءات الإسلامية عبر العروض النفطية والمساعدات المالية والمشاريع الاستثمارية.
وعلى سبيل المثال، السنغال، البلد الذي يتمتع بثقل دبلوماسي في أفريقيا الفرنكوفونية وله تأثير في الأمم المتحدة، حيث تلجأ إليه بعض الحكومات الأفريقية في بعض القضايا الكبرى. لذلك تحاول إيران التودد للسنغال، وإلى جانب مصنع سيارات خودرو، وعد الإيرانيون بتصنيع الجرارات، وإقامة مصفاة للنفط هناك ومصنع للمواد الكيميائية، فضلا عن توفير الكثير من النفط بأثمان بخسة.
الاستراتيجية الإيرانية في أفريقيا طويلة الأمد ومحسوبة بشكل جيّد، وهي تجمع بين النفوذ السياسي والاقتصادي إلى جانب التسلل الديني، وخطرها وفق الخبراء يكمن في أن أفريقيا، وخصوصا غرب القارة، منطقة تعجّ بالصراعات المسلحة والمشاكل الإثنية، التي قد تساعد إيران في تحقيق فائدة كبرى، خاصة في ظلّ تواصل غياب القيادات السنية الكبرى، وهو فراع بدأت تركيا، في السنوات الأخيرة، تعمل على تغطيته، وهي التي ترى أن لديها خبرة تاريخية في ذلك، عبر نظام الملل الذي اتبعته الامبراطورية العثمانية في أواخر سنوات حكمها، وكان سببا وفق بعض الخبراء في دخول المشاريع الطائفية للمنطقة.
صحيفة العرب اللندنية